المهندسة ريان نجار – طرابلس – لبنان
لا شيء يضاهي المكانة المحورية لمركز المدينة فمن يسيطر على الساحة يملك المدينة برمتها
ساحة التل
مما لا شك فيه أننا لا يمكننا فصل تاريخ لبنان، عبقه وأصالته، عن طرابلس العاصمة الثانية له، فإنهما حقاً متلازمان- متكاملان، فمدينة طرابس: «المدينة المتكاملة بأحيائها وأسواقها، ودورها، وأزقتها المتعرجة الملتوية والمسقوفة ومعالمها التي تمتد من الجنوب إلى الشمال نحو الكيلومترين ومن الشرق الى الغرب نحو الكيلومتر ونصف الكيلومتر، وتضم بين جنباتها أكثر من 160 معلماً، بين قلعة، جامع، ومسجد ومدرسة وخان وحمام، وسوق وسبيل مياه، وكتابات، ونقوش، ورنوك وغيرها من المعالم الجمالية والفنية.» ( 1)
فهي من أبرز المدن على الساحل الشرقي من حيث إحتوائها على التراث العمراني وبإختصار هي الكيان الحي دائم التطور والتمدد، والإلمام بھا لايتم الإمن خلال الإدراك التام والمعرفة المعمقة لمركزھا الرئيس، التراثي والتقليدي وتسليط الضوء عليه والتفتيش عن خباياه الذي يحوي مخزون متشعب وهائل . فمركز طرابلس شكّل واجھة المدينة عبر الزمن وأسس لبيئة عمرانية إنمائية في عجلة تطورالمدينة، وتحديدا ساحتها – ساحة التل– التي تقع في منطقة التل فكانت عبر التاريخ الحيزالأھم لإستقطاب وتلاقي التجمعات البشرية بالأبعاد المتشعبة والمتعددة للمارسة الأعمال والخدمات المدينية وتنوع الأعمال بين مراكزرسمية وإدارية وترفيھية وخدماتية وتجارية ناھيك عن الأعمال العفوية والغيرمنظمة.
فاليوم حين نفكر بمركز المدينة، معظمنا يتوجه نحو المباني والمنشآت العامة أوالخاصة والشوارع والتقاطعات، والقليل ممن يجزم بحتمية المركزعلى أنه يعود للناس أي أن ركيزته الأساس : الناس حيث الأماكن التي يتوجهون إليها و التي يلتقون فيها أي الحيز العام، ” الساحات العامة “، ” الساحة العامة “.
فساحة التل هي رمز الوسط القائم :
هي المفتاح الأساس لإنعاش الذاكرة؛إستحضار الماضي.
هي المفتاح لعبق مدينة تربط أوصال قديمها بديناميكية الحياة.
هي المفتاح لإستقطاب الحداثة.
وبمعنى أشمل الحفاظ على منطقة التل وتحديدا ساحتها “ساحة السراي” التي تشكل موقع الأحداث في طرابلس والشمال طيلة حقبات تألق المدينة، لكونها صلة الوصل بين مختلف الأحياء التي ربطت النسيج المتفاوت والمتباين، يعني الإبقاء على ما تضمنت من قيم معمارية وتاريخية وأثرية وإجتماعية وإقتصادية وخدماتية وسياسية. فهي التتمة لهيكلية المدينة المتدرجة من الأحياء التاريخية، والتراثية، الإنتقالية وصولاً إلى الحداثة، في تنوع فريد للحقبات المتعاقبة في تشكل النطاق الحضري للمدينة. بالإضافة إلى كونها أحد أهم الأمثلة عن النشوء خارج الأبواب الخمس لمركزلمدينة وترابطها التام حول شبكة من الساحات والفسحات مشكلة بذلك نموذجاً فريداً من أجمل تركيبات المجال المديني .
“المدينة هي مسرح لأنشطة الإنسان والتيتحدث من خلال عمليات متزنة أومصالح متضاربة بين السكان . لذا فإن المدينة لها دلالات متعددة: إجتماعية، إقتصادية إضافةً إلى المعمارية فهي جسم واحد ومن الصعب فصل جانب منهاعن الآخرحيث أن الجوانب الثلاثة هي المكونات الأساسية للمدينة” (2)
“فمن الناحية الفيزيائية والعمرانية فإن المدينة تتكون من عناصرحضرية موجودة بنوعين
العناصرالفيزيائية المبنية التي نراها، والفراغات التي بينها ونتحرك خلالها “(3)
“هذه الفراغات تعتبرمسرح للنشاطات الإنسانية كما ذكرممفورد، كونها الحضن لهذه النشاطات الإجتماعية. وبالتالي تخضع لتبعية التشكيل الحضري للمدينة والذي يتغيرمن مدينة إلى أخرى ومن عصرإلى آخربحسب العوامل الجغرافية أوالسياسية أوالإجتماعية، ولكن ما يميزالفراغات الحضرية بين المدينة وأخرى هي إقترانها بالعوامل السياسية، فالسلطة مؤثرة في تكوين المدينة وبنيتها، وتتراوح بين أن يكون القرارفي المدينة محصوربيد سلطة قوية أوأن يكون القراربيد الشعب والمجتمع.” (4)
فالمدينة هي الكيان الحي دائم التطور والتمدد، والإلمام بها لا يتم الإ من خلال الإدراك التام والمعرفة المعمقة لمركزها الرئيس، وخاصة فيما يتعلق بدورها التراثي أو التقليدي. وذلك لأنه يشمل الشق العمراني والشق الإنساني اللذان بتكوينهما مرتبطان معاً حيث أن الفراغات الحضرية هي من أكثرالعناصرالتي تتجلى فيها العلاقة بين الإنسان والمدينة، فإلى جانب العناصرالفيزيائية للمدينة مثلا لمباني “الكتل المبنية” نرى أن الجزء غيرالمبني من أي مدينة له أهمية في أي تكوين حضري وخاصةً في تكوين المراكزالتاريخية، لأنها تعتبر المكان الذي يلتقي فيه السكان خارج نطاق بيوتهم، فهو مكان تلاقي التجمعات البشرية بأبعادها المتشعبة والمتعددة وملتقى الأنشطة فيها بإختلافها، فهو الحيز الأهم لإستقطاب وتلاقي المواطنين كل وفق إهتمامه وإختصاصه وميوله على حد سواء، وهو أيضاَ مكان الحدث ومحور الأعمال والخدمات المدينية و تنوعها بين مراكز رسمية وإدارية وترفيهية وخدماتية وتجارية ناهيك عن الأعمال العفوية والتجمعات المنظمة والغير منظمة .
هوالمسرح الإختباري المفتوح، هوميدان التفاعل للسكان (أفراحهم،أتراحهم الجماعية ومطالبهم وإحتجاجتهم )، وهوالحلقة المحورية في تشكل بنية المدينة. فهومركز إستقطاب محتم والبنية العمرانية بإمتياز، وهومجموع الصور التي ترتسم في الأذهان لتشكل الذاكرة، وهو هوية مدينة بإمتياز.
- فمنطقة التل التي تحتل مساحة واسعة من طرابلس تعد من أهم المعالم التاريخية التي تضم الثقل التراثي والأثري، فهي تجسد تاريخ تعدد الحقبات التي تتالت على حكم طرابلس لا سيما العثمانية والفرنسية. إضافةً إلى كونها تعتبر بوابة طرابلس التجارية والمدخل الرئيس للمنطقة القديمة؛
إذ أنها تقع على مقربة من جميع المعالم الأثرية والسياحية للمدينة القديمة بالإضافة إلى كونها المتحف الحي الذي يضم مجموعة من الأبنية التراثية والنماذج المعمارية الفريدة وأبرزهم :
(ساحة التل،قصر نوفل، حديقة المانشية، مسرح الإنجا ورويال ،أوتيل حكيم، أوتيل عزمي غازي،قصر عويضة وبيت عز الدين…). كل من هذه الأماكن لها ماضٍ وتاريخ يجسدان حقبة معينة من الزمن وخاصة في وجدان أبناء هذه المدينة.
لذا شكلت ساحة التل، ساحة اللقاء على مستويات وأمكنة مختلفة ومتفاوتة ومتقاطعة ومتفارقة وأبرزها: المقهى والمسرح والسينما والملهى وأيضا الفندق والمطعم.
- كما شكلت مدينة التل وتحديداً ساحتها – ساحة التل – الرحم الذي ولدت منه العديد من صور الماضي المشرف من حيث نشأتها وتكوينها وكذلك الوظيفة التي أدتها إن كمحلة جديدة في القرن التاسع عشر في عهد العثمانيين أو كساحة مركزية جديدة في عهد الإنتداب .
عكست ساحة التل مراحل التكوين الأولى لهذا الوسط ، تطورها تفاعلها وإتصالها مع المدينة القديمة والأسواق التجارية على وجه الخصوص وواكبت المحطات المفصلية من حياة وأحداث المدينة وتحديداً عشية إعلان إستقلال لبنان .
- شكل ھذا الوسط حول شبكة من الساحات والفسحات :
ساحة السرايا العتيقة، ساحة الكورة، ساحةا لنجمة، ساحة الكيال، ساحة الحسين و ساحة الشھداء حيث تتمحورجميعھا حول الميدان الرئيس لساحة التل وحديقة المنشية وساعة التل لتعكس ميزات المجال المديني عبرالعھود حيث إنصهار الفراغ العمراني مع النشاظ الوظيفي والإجتماعي.
في الأربعينيات حظيت هذه المنطقة بحركة إقتصادية لافتة مع تواجد المحلات التجارية والمقاهي ودور السينما والفنادق، حتى بداية الأحداث اللبنانية ما أدى إلى تفاقم حالة المدينة على كافة الصعد وأطاح تحديداً بمركز المدينة واّدى إلى نشوء حالة من الركود الإقتصادي وإلانكماش الإجتماعي .فعانت منطقة التل من حالة موت بطيئ وخاصةً مع فقدان وإهمالا لكثيرمن مبانيها الأثرية الجميلة كما فقدت مكانتها ومركزها الإقتصادي.
بعد أن أقفلت محلات تجارية بالجملة ونمت مكانها البسطات وفتحت الدكاكين وإنتقل قسم كبير من المؤساسات إلى مناطق أخرى من المدينة وإنتشرت الفوضى وتغيرت معالم التل القديم ولم يبقى من الصورة التاريخية سوى مبنى الساعة، وحديقةالمنشية، وقصرنوفل، ومقهى فهيم والساحة… ناهيك عن مسرح الإنجا الذي وافاه الأجل وسط ظروف غامضة تثيرالقلق والشكوك.
- إن إنتشارالنشاطات في الأحياء ومواقع الأعمال المستحدثةمع توسع المدينة لم تضاهي المكانة المحورية للمركزولم تنجح في إعادة مكانة التل بل ساهمت في تشرذم الأعمال وإضعافها، خاصةً وأن المركز يشكل المرجعية الأساسية للأنشطة والأعمال في المراكزالأخرى المنتشرة في أنحاء المدينة وضواحيها، وبات النسيج متفاوتاً ومتبايناً بين الأحياءالتاريخية والتراثية والتقليدية من جهة والأحياء الحديثة من جهة أخرى.
- إن عملية الإهمال المتزايد وإنتقال ساكني منطقة التل من أهل طرابلس المحليين أدى إلى إنحدارالروابط الوثيقة التي كانت سائدة بين أهالي طرابلس مع مدينتهم فلم يعودوا متمسكين بالمكان بعد أنصارواغرباءعنه. إضافةً إلى هجرة المستخدمين ونسبة الشغور لوحدات المكان بنسبة كبيرة خاصة بما يتعلق بالوحدات التجارية والأعمال وإنتقال الملكية للمباني عبرالزمن.
- إن دخول الساحة بات يشكل أزمة ويصيب المارين بالضغط المرتفع من جراء الإزدحام الخانق اليومي الذي حول الساحة إلى موقف فوضوي للسيارات، وإلى تجمع لمواقف البلدات والقرى الشمالية .
فمن التل تنطلق إلى القبة وأبي سمراء وزغرتا وعكاروبيروت وهنا كمواقف للباصات اللبناني والسورية. كما أن هذه الساحة مكتظة دائماً بالعمال الغرباء والمتسولين وماسحي الأحذية بخلاف الأسواق التجارية في المناطق الأخرى.
فالمركز في المدينة يشكل واجهتها، فيتألق بإزدهارها ويتداعى بإنحصارها وهوالجزء الرئيس الأكثرقابلية في تفعيل عجلة النمو،ومن هنا نطرح السؤال التالي:
هل تستحق ساحة التل اليوم إهتماما أكبر يحمل بين طياته الصدق في التعامل معها والسعي الحثيث لإستعادة رونقها لتكون على شاكلة الساحات النموذجية في مدن العالم أجمع؟ ! لكي لا يقف التاريخ عند حقبتنا اليوم و يقال أهملت ساحة التل وأهمل دورها المتصل بطرابلس؟ قديمها وجديدها ؟ ؟
(1) د.خالد تدمري
(2) إبراهيم،عبدالباقي. المنظورالاسلامي للتنمية العمرانية. القاهرة: مركزالدراسات التخطيطية و العمرانية .1993م.
(3) Hillier, Bill .The Art of Place and the Science of Space،1995
(4) أكبر،جميل عبدالقادر: عمارةالأرض في الإسلام. الطبعة الثانية. مؤسسة الرسالة. بيروت . 1995 م.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.