شو بدها علم بعينطورة؟ بقلم د. روني خليل
بقلم د. روني سمعان خليل – أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
معهد القديس يوسف عينطورة: “أم المدارس في لبنان”.
خلال القرون التي سبقت تاريخ افتتاح مدرسة مار يوسف عينطورة، نشأت مدارس عديدة في قرى لبنان غير أنها لم تعمّر طويلاً، فما إن يموت مؤسسها حتى تتوقف عن متابعة رسالتها. وصحيح أن مدرسة عين ورقة- غوسطا أسست في العام 1789 واستمرت قروناً من الزمن غير أن انطلاقتها ورسالتها التربوية انحصرت بتخريج الإكليريكيين فقط، في حين كانت مدرسة عينطورة مخصصة لتعليم العلمانيين. من هنا هي اليوم الأقدم ويمكننا القول أنها أم المدارس في لبنان.
“شو بدا علم بعينطورة” – الإنطلاقة التربوية التاريخية:
مثل شاع ولم يزل يتردد على ألسن الكثيرين من أبناء المنطقة ولبنان عموماً. تعالوا نكتشف سرّه.
في العام 1834، وبعد سلسلة من العوامل أبرزها نشر العلم والثقافة، التنافس مع الإرساليات الإنكليزية، إيصال أفكار عصر النهضة الأوروبية الى لبنان، …وسواها من العوامل التي ساهمت في نشأة هذا المعهد العريق. إنطلقت المدرسة بسبعة تلامذة، وشملت كافة المراحل التعليمية. ففي النهار يتعلم الطلبة وفي الليل ينامون في الدير. وما هي إلا سنوات قليلة حتى اندلعت نيران الفتنة في الجبل (أحداث 1840 و 1860)، فاستقبلت المدرسة والدير (دير مار يوسف المنشأ أواسط القرن 17) مئات المتضررين والمنكوبين الذين باتوا من دون مأوى يلجأون اليه، بالتزامن مع استمرار دورها التربوي الذي أخذ بالتصاعد سنة بعد سنة. وخلال أحداث ثورة الفلاحين، أدى خريجو المدرسة دوراً وطنياً من خلال نشر أفكار التحرر بين العامة بعد أن نهلوها من مدرستهم. فشكّلوا ليس فقط في فترة الثورة انما في معظم المحطات التاريخية حركة وعي ويقظة علمية ووطنية وفكرية.
بعد استتباب الأحوال، وفي ظل نظام المتصرفية، أخذت المدرسة بالنمو والازدهار بشكل مطرد، فمع الرئيس الأب سالياج SALIEGE (1879- 1911) ارتفع بنيانها أكثر فأكثر، ببصمات المهندس LEONARD DELANUIT (مصمم صرح بكركي أيضاً). فاستقدمت حجارتها من مقالع القرى الجبلية وأخشابها الصلبة من منطقة مرسين في تركيا. فعلا البناء وتوسّع وبنيت كنيسة جديدة (1889) بنمط معماري غوطي ما تزال حتى يومنا هذا تشهد على أبرز الاحتفالات والمناسبات الروحية، إضافة الى البرج (شعار المعهد اليوم). وتخليداً لذكرى المهندس الفنان أقيمت قاعة على اسمه وتمثال للأب سالياج. بعد وفاة الأب سالياج تسلمها الأب سارلوت SARLOUTTE الذي أكمل المسيرة فأدخل نظام الشهادة الفرنسية (بكالوريا فرنسية) وخلدت ذكراه بتمثال برونزي أيضاً.
معهد عينطورة خلال الحرب العالمية الأولى: صدرت الأوامر العثمانية بمصادرة مؤسسات الدول الحليفة في لبنان، وبما أن معهد عينطورة يتبع لإرسالية فرنسية، تمت مصادرته في العام 1915 من قبل الجيش العثماني المتحالف مع الألمان، وعليه؛ دخله العسكر التركي مع 800 يتيم أرمني وكردي أتوا بهم بغية تنشئتهم عسكرياً وتحويلهم أتراكاً وطردوا جميع الطلاب والآباء، فبات المعهد ثكنة عثمانية وزاره القائد جمال باشا متفقداً سير الأعمال فيه. ونظراً لشح المياه وصعوبة إيصالها بالتزامن مع ظروف الحرب، انتشر مرض التيفوس والتيفوئيد بين صفوف التلامذة الأيتام، فحصد الموت العشرات منهم (حوالى 300 تلميذ توفى). الى أن تأمنت المياه وبشكل جزئي من نبع قريب من دير حراش – عين الريحانة. بعد انتهاء الحرب، عادت الحياة الى المعهد، وعاد الأب سارلوت رئيساً فبادر الى رد أسماء الأيتام الأصلية، والى احتضانهم تزامناً مع ارجاع التلامذة والطاقم الإداري والتعليمي، وتأسس سنة 1923 أول فرقة كشفية وبعدها بسنتين، استكملت مسيرة البناء بتشييد المسرح وتوسيع الملاعب وإضافة الممرات … وفي العام 1935 انطلقت مسيرة رابطة خريجي المعهد.
تابع المعهد رسالته التربوية خلال الحرب العالمية الثانية، وتحوّل في أوقات متقطعة معسكراً للجيش الفرنسي، وتوالت عهود الآباء الرؤساء كل منهم يترك بصمة، وتخليداً لذكراهم حملت قاعات عدة اسماء ما زال تلامذة المعهد يرددونها؛ BERTRAND- SALLE DE LANUIT- SALLE MARANSIN وسواها. أواخر ستينيات القرن الفائت، وبعد الازدهار الاقتصادي الذي حققه لبنان خلال تلك الفترة، وبعد تأمين الإدارة باصين لنقل التلامذة ( العام 1960)، انتقلت المدرسة تدريجياً من نظام الطالب الداخلي الى نظام الطالب الخارجي ومع بداية العام 1975، تكرّس هذا الأمر بشكل كلّي.
المعهد تحت إدارة اللبنانيين: بعد تزايد أعداد الآباء اللعازاريين اللبنانيين، وتمرّسهم في الإدارة كمعاونين للآباء الفرنسيين، بات عليهم استلام زمام الأمور، فترأس المعهد الأب نعوم عطالله العام 1969 الذي باشر عهده بإدخال العنصر الأنثوي بين صفوف الطلبة (1969- 1970)، وبتأسيس رابطة الأساتذة لجنة الأهل في العام 1971، ومن حينها لتاريخنا اليوم آلت الرئاسة الى الآباء اللبنانيين. عايش المعهد فترة الحرب اللبنانية، فاستقبل العائلات التي هجّرت من مناطقها، وبعد انتهاء الحرب، استكمل المعهد مسيرته في الإشعاع الفكري والعلمي مقدماً لوطننا الحبيب وللعالم عموماً أفواجاً من الخريجين برع العديد منهم في مجالات شتى. وكان خلال مسيرته وحتى اليوم ليس فقط منارة مضاءة ومركز فكر وثقافة انما أيضاً معهداً مسكونياً استقبل الطلاب من مختلف المذاهب، ومركزاً وطنياً أمّه العديد من القادة الروحيين والسياسيين، فخطبة الإمام المغيّب موسى الصدر ما تزال تتردد في أذهان الكثيرين لما حملته من رموز وطنية وإنسانية – حضارية. وترسيخاً وتثبيتاً لدور المعهد الريادي، شاءت التقاليد أن يكرّس البطريرك الماروني زيارة سنوية له في عيد شفيعه.
من تلامذة المعهد في الحقل السياسي (مع حفظ الألقاب): سليمان فرنجية- رينيه معوّض- بترو طراد- كمال جنبلاط – سليم تقلا- عمر الداعوق- صبري حماده- حميد فرنجية- موريس الجميّل- منصور بطيش- يوسف سلامه- زياد بارود- جان عزيز…[1].
[1] عصام كرم، عينطورة “أم المدارس” الذكرى الخمسون بعد المئوية الثالثة تاريخ الدير والمعهد (1657- 2007)، ص 9- 166.
Pierre CORCKET, Les Lazaristes et les filles de la charité au Proche – Orient 1783- 1983, Maison des Lazaristes, Achrafieh- Liban, 1983, p 137 – 150.
روني سمعان خليل، البطريرك يوسف حبيش، عصر التحولات الكبرى 1823- 1845، 2017، ص 47، 179.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.