شعبٌ تحكُمُهُ خِشخَيشَة…بقلم روني ألفا
شعبٌ تحكُمُهُ خِشخَيشَة
بِقلَم روني ألفا
جريدة النهار
مرَّ التاسعُ عشر من تشرين الثاني مرور الكرام مع أنه يصادف الذكرى السنويَّةَ للفلاسفة. لدينا منهم الكثير والحمدُ لربِّ العالمين. تعودُ بي الذكرى إلى أيامِ الجامعة حيث كنت أتابعُ دراستي في السنواتِ الأولى من تخصصي في كلية العلوم الإنسانية معجوناً بشاعريَّةِ بابلو نيرودا و ” ثورجيّة ” تشي غيڤارا.
كانَ سقراط طبقاً أساسياً على مائدةِ الفلسفة. ” كْزَنْتيبي ” عقيلتُه كانت على ما يَبدو أوَّل مِن ألهَمَ مجمَعَ اللغَةِ العربيَّة لإدخالِ كلِمَة ” نَكَد ” في لِسانِ العَرَب. نغّصت هذه الزوجةُ التي بَقِيتْ عاقراً حياةَ سقراط الذي اشتُهِر بوسامةِ أقوالِه وقباحَةِ مُحَيّاه. أظنّي به فضَّل اجتراعَ السُمّ على تحَمُّلِ نَكَدِها.
أذكرُ حينَها أننا تنادَينا وأَسَّسنا جمعيةً أطلقنا عليها إسم ” جامعيون لبنانيون ” وكان الهدفُ منها تشكيلُ جبهةٍ أكاديميةٍ شبابيّةٍ لدعمِ العماد ميشال عون رئيس الحكومة الإنتقالية آنذاك في حربِه التحريرية ضد سوريا. الشِّعارُ يَفتنُ وكُنّا على يقينٍ أننا سنغيّرُ وجهَ الدنيا بالشعارات.
حلقاتُ حوارٍ وخلوات وعصفٌ فكريٌّ ولقاءاتٌ مع العماد عون ودعم لوجستي إلى أن دَخَلت علينا وكنا على ما أذكُرَ في أحدِ الأديرةِ مُجتمعينَ مجموعةٌ من رفاقِ الدراسة تتدلَّى من صدورهم صلبانٌ مَشطوبة. دَرَجَ الصليبُ المشطوبُ في أواخرِ الثمانينيات كأحدِ علاماتِ الإنتماءِ إلى ” القوات اللبنانية “. لم يكن مشروع ” تحرير ” لبنان من سوريا مدار خلاف بين القوات وعون. كان الخلاف على الشِّعار. أذكر يومَها أن أحدَهُم أنَّبَني على علمانيَّةِ الشِّعار. أضاف قائلاً ” بالصليب فقط تَنتصِر”. أقصرُ طريقٍ للأدلَجَة كانَ إهدائي صليباً مشطوباً ما زلتُ أحتفظُ به في أحدِ أدراجِ العزوبيةِ في بيتِ أهلي.
تيقّنتُ لاحقاً أن الشِّعار أحدُ أدواتِ السلطة. وظيفةُ شعارِ عون الأساسية كانت استقطاب المُسلمين. وظيفةُ الصليب المشطوب كانت شدَّ أزرِ المَسيحيين. خِطابٌ مشرقيٌ في مواجهةِ خطابٍ إنعزالي. السوري حَسمَ الجدلَ وأطاحَ بالشِّعارينِ معاً. واحدٌ أودِعَ سجنَ وزارةِ الدفاع والآخرُ أودعَ ” الهوت ميزون “.
بعد مضي أكثر من ثلاثةِ عقودٍ على حرب الشِّعارَين عدنا إليهما إنما ” نيو لوك “. صراعٌ للإستيلاء على سفينة مثقوبة. تغيير في الوجوه مع الإحتفاظ بالدور نفسه. الأباتي نعمان وشاكر أبو سليمان في الماضي وملحم رياشي وإبراهيم كنعان في الحاضر. ” بيمون الجنرال ” في الماضي واتفاق معراب في الحاضر. كبرنا ثلاثينَ عاماً وما زالَ الشِّعارُ شاباً وبمفاعيل قنبلة إنشطارية. صلبانٌ مشطوبةٌ تواجهُها مشرقيةُ مَعطوبة. بينَ الإثنين ألقابٌ وكراسي وصفَ مساوئها شبلي الشميّل بأربع كلمات: ” المَقاماتُ العاليةُ تطمسُ البَصائر “.
الشِّعارُ أكبرُ أداةِ لُحمَةٍ بينَ أفرادِ مجموعة. أكبرُ أداةِ فُرقَةٍ بينها وبينَ مجموعةٍ أخرى. من أقوالِ نابليون بونابرت التي مرَّتْ مرورَ الكرام والتي برأينا تستحقُّ انتباهَ الفلاسفة وعلماءِ السياسة هذا القول : بالخِشخَيشات يُحكَمُ الناس “. الخِشخَيشَةُ لعبةُ أطفالٍ تُحدثُ خَشخَشةً إذا هُزَّت. من مفارقاتِ صدفةٍ غريبةٍ أن تحدِّثَنا اللغةُ العربيَّةُ عن خَشخَشَةِ السلاح. خَشخَشَةٌ من هذا النوع تِصفُ صوتَ السِّلاحِ عندَ تَلقيمِه. خِشخَيشَةُ شعارٍ تؤدي إلى خَشخَشَةِ سِلاح. تماماً ما أحدثَتهُ خِشخاشتانِ في تاريخِنا المُعاصر.
بالطبع لا بدّ وأن يقودُنا الجناسُ إلى حيثُ يتشابهُ اللَّفظانِ في النُّطْقِ ويَخْتَلِفَان في المعنى. إلى الخَشَّةِ والمُخَشخَشِ وفيهما الكثيرُ من مَعاني الخَبَلِ والعُتهِ والجُنون بكل الفُنون. بعدَ ثلاثينَ سنةً عادت الخِشخَيشَةُ وعادت الخَشَّةُ مع تَعاظُمِ الخسَّةِ فوقَ رؤوسِ البعض.
يبقَى لي مِن الفلسَفَة العزيزُ ديوجين القابِعِ في جرَّةِ طين. حطَّمَ يَومَها المَطرَةَ الخشبيةَ الوحيدة التي كان يملكُها وذلك عند رؤيتِه فتى يشربُ من جَوفِ يديه. صرخ يَومَها: «أحمقٌ أنا لأني حملتُ أمتعةً زائدةً عن الحاجة طِوالَ هذا الوقت» .
مثلُ دِيوجان نتجوَّلُ وسطَ الجائِحَة والضائِقَة حامِلينَ مصابيحَنا صارِخين: نبحثُ عن رجلٍ نزيهٍ وسطَ مجموعاتٍ مِن الأوغادِ في طولِ وعَرضِ البِلاد.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.