حياةُ شعبٍ مَيت
بِقَلَم روني ألفا
جريدة النهار الإثنين ٧-٦-٢٠٢١
ليسَ صحيحاً أن الأوطانَ لا تموت. يقتلُها أبناؤها بأيديهم. بالطبع لا تُدفَنُ كما الجثامين. الوطنُ فكرةٌ وشعورٌ وقشعريرة. عندما تفقدُ هذه الثلاثية في قلبِكَ فهذا يعني أن وطنَكَ ماتَ بغضِّ النظر أينَ يقعُ شاهدُ القبر.
عندما تصبحُ الهجرةُ وطناً بديلاً والغربةُ حلماً ذَليلاً يموتُ الوطن. عندما لا يُضنيكَ الحنينُ القَتّالُ ولا تناديكَ العودةُ الوشيكَةُ اليه يموتُ الوطنُ أيضاً. موتُهُ متكرّر. الإنسانُ يموتُ مرّةً واحدةً أما وطنُه فيموتُ كلَّ يوم. ماتَ لبنان الذي نعرفُه لسببٍ إضافي أيضاً هو لأننا شعبٌ مَيت.
هذا ليسَ فعلَ إنكارٍ ولا شهادةَ مُواطِنٍ عاقّ. ليسَ أصعبُ على الإنسان من أن يعلنَ وفاةَ أجملِ شَيْءٍ حدثَ له في حياتِه أعني مسقطَ رأسه.
أن تشعرَ أنك لم تعد تنتمي إلى فكرةِ الوطن ولا تشعرُ بأيِّ عاطفةٍ تشدُّكَ اليه ولا تنتابُكَ أي قشعريرةٍ عند رؤيته. يمرُّ وطنُك أمامَكَ كل يومٍ مرورَ الكرام. يناديكَ فلا تَسمَع. يقعُ أرضاً فلا تلمَّه. تتظاهرُ وكأنك لا تعرفُه. تسيرُ في موكبِ جنازَتِه متناسياً أنه موكبُ جنازتِك.
هل حدثَ أن تفرَّستَ في وجوه الناس؟ يشبهونَ ملامح وجهِك. خوفٌ من المجهول. وجوه مذلولة رغم انها طافحة بعزَّة النَّفس. تعطي من الضعفِ قوةً ومن اليأس أملًا ومن الإحباط عزيمةً ومن الهزيمة نصراً لكنها تعرفُ في قرارةِ الأنفس أنها تَعودُ لأُناسٍ مَنسِيّين ومتروكين ومُهمَلين ومشرَّدين.
بِتنا جاهزينَ بعد إذلالِنا لكلِّ أنواعِ الحلول. انقلابٌ عسكري. حكومَةٌ انتقالية. انتخاباتٌ مبكرة. إعداماتٌ جَماعية. ثورةٌ شعبية والسبحةُ تكرُّ متيقِّنين ان كل نظرياتنا هباءٌ في هباء. نحنُ ماعِزٌ في حظيرة ينتَظِرُ الجَدي منا تلوَ الآخر ذبحَه. بعد مرورِ السكين على أورِدتنا سيكونُ جلُّ اعتراضنا نفضَتَينِ أو ثلاث من جهازنا العصبي لدقائقَ قبلَ أن يجهزَ لحمُنا على واجهاتِ القصّابين.
ما الفَرقُ بينَ الإعدامِ على طريقةِ داعِش وبينَ الإعدامِ على الطريقَةِ اللبنانية؟ لا شيءَ سوى أنَّ إعدامَنا لا يُصَوَّرُ على شاشاتِ التلفزةِ ولا يستنفرُ العالَم. قَتلُنا لا يستحقُّ حربًا دوليةً ولا إقليميةً ولا حتى بيانَ إدانة. انتقَلنا بالإعدامِ البلَدي من مرتبة سويسرا الشرق إلى مرتبة بيافرا الشّرق. صارت أكثَرُ سِلعةٍ كماليّةٍ يحتاجُ اليها الناس في هذا الزمن دجاجٌ بيّاضٌ يطعمُكَ بيضاً بلدياً. أن تَكُونَ صاحِبَ قِنٍّ في لبنان هو أن تَتقمّصَ سلطانًا مَخفِيًّا.
قمتُ بحَملَةِ تطهيرٍ غير إثني في مكتبتي نهارَ أول مِن أمس. بسببِ اكتظاظِ الدِّرَفِ بهذه المخلوقاتِ المُعَنوَنةِ كنتُ قد اعتمدتُ منذ سنواتٍ توضيبَ الكتبِ وفقَ ترتيبِ المجموعاتِ الأماميةِ والخلفية.
ألقَيتُ القبضَ على كتابٍ باللغةِ الفرنسيةِ للكاتبَين ” بيار ساسّْ ” و ” إيڤ رومانيتي ” تحتَ عنوان ” حياةُ شعبٍ مَيت ” يستعرضُ فيه المؤلفُ ظاهرة الشعبِ الجزائري تحتَ الإنتدابِ الفرنسي في القرن الماضي.
نَقَلَ ” ساسّْ ” عن مفكّرين ومستشرقين أوروبيين زاروا تلك البلاد أنَّ ” البَربَري ” أو ” الأمازيغي ” وهو الإسم الذي يُطلَقُ على السكان الأصليين في الجزائر عاجزٌ عن حكمِ نفسه بنفسه وانه بِحاجةٍ دائماً لشكلٍ من أشكالِ الوصاية.
البربريُّ على ما جاءَ في تلك التقارير آنذاك يعاني عجزًا متأصِّلًا جينيّاً عن الحرية والإستقلال. مهمةُ أمِّه البيولوجيّة إنجابُه فقط. ممارسةُ التربيةِ والتعليمِ والتدجينِ لاحقاً من مَهام أمِّه الأخرى، أمُّهُ الحنون. لا بدّ من بابٍ عالٍ يديرُ شؤونَه ويرعى علاقاتِه مع إخوَتِهِ البرابرة.
استَكمَلنا رحلَتَنا نحن نحو البربرية لنتحوَّل الى شعبٍ ميت في وطنٍ ميت. صارَ المصرفيُّ مِنّا فلّاحاً. إتقانُهُ مواقيتَ رَيَّ الباذنجان والبامية باتَ أفضل من إلمامِه بالسويفت واحتسابِ الفوائِد. ” طَزاطيز ” درّاجات التيكتوك تجول في شوارعِنا بدل موديلات السيارات الجديدة وباتت العاملات المنزليات اللواتي نحترمهنّ أصلاً يتندّرنَ على زوجاتنا. نحن برابرة للبيع أو للإيجار لأي وصي تقع عليه القرعة لانتدابنا.
أبها اللبنانيون تحضّروا. أبو عَبدو طراز جديد مع زوائد سيحطُّ آتياً من دولة صديقة عمّا قريب. جزمَتُهُ طاحِنَة. هامَتُهُ باسِقة وبطشُه ساحِق ماحِق. أهلا وسَهلا باللي جاي كالعادة و” يِسوانا ” ما يِسوى البرابرة.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.