ثورةُ المناقيش آتيَة….بقلم روني ألفا
عندما كنّا نسمَعُ بترويقَةِ مناقيش واصِلَة مع بَصلِها وبَنَدورِها المفروم ناعِماً إلى بيتِنا كنّا نشعُر بأننا في موسِم الأعياد. كانَ موعدُها صباح الأحَد مترافِقاً مع صوتِ جدّتي لأمّي تحثُّنا على نفضِ ثيابِ النوم والنّهوضِ للمشارَكَة في ما كانَ يشبِهُ مهرجاناً للصّعتَر. أذكرُ تماماَ أصابِعَ التيتا كما كان يَحلو لنا أن نناديها ونحنُ صِغار. أصابِع أنظَفُ مِن أصابِعِ الممرّضَة كانَت تصرُّ على تنقيشِ عَجينَةِ المنقوشَة في الفرن القَريب قبلَ دخولِها إلى النار. كانَ تنقيشُ رؤوسِ أَصابع جدَّتي يُحدثُ فَجواتٍ لَطيفَةً على جسدِ العَجينَةِ المدوّرَةِ حتّى لا تحدِثَ وهي تتعرّضُ للنار بالوناتٍ وفقّاعاتٍ غير مستحبّة. كانَ الخَليطُ يَخرجُ من مطبَخِ البيت إلى الفرن القريب محفوظاً في وعاءٍ بلاستكي ويعودُ فارغاً مترَبِّعاً فوق جبلٍ عموديٍّ من المناقيش على صينيّةٍ من الحديدِ رماديّة اللون.
على الطاوِلَة كانَت ربطَةٌ من ورقِ النعناعِ المغسَّلِ بِعنايَةٍ تنتظرُ لتستشهِدَ كرمى لعيونِنا الجائِعَة. صحنٌ من اللبنَةِ خريّجُ كيسٍ مخصّصٍ لقطعِ اللبنِ مَشنوقٌ على حنفيّة المطبخ. كانت مهمتُه تزويدَنا بحوالي الكيلو من اللبنَةِ البيتيّةِ أسبوعيّاً للقيام بواجِبِ الترويقَة. صِحفَةٌ من الزّيتون الأخضر أو الأسوَد كانت تشتريه التيتا من الدّكنجي ” جِرجي محبِّه ” مقطوفاً مباشَرَةً من البستان. كانت تتولّى الراحِلَة ذبحَهُ حبّةً حَبّةً ثمّ نقعَهُ بالمِلح الخَشِنِ لمدّةِ يومين ثمّ غسلَه بالماء وضغطَه في مراطبين مع مقاديرَ محسوبةٍ من الحامِض والزّيت. أن تشعرَ بالمرورةِ اللذيذة للزيتون يتغزَّلُ بِسقفِ حلقِك كانَ بمثابَة كافيار الفقراء. ماتت جدّتي وماتَ معها زمانُ المنقوشَة وصباحاتٍ حلوَةٌ ذهبَت إلى غيرِ رجعَة.
يُقَدَّرُ سِعرُ المنقوشَةِ بعدَ رفع الدّعمِ عن طَحينِها الإكسترا باثنتَي عشر ألف ليرَة للمنقوشَة الواحِدة مع كامِل تَجهيزاتِها. صارت من الكماليات. عن الزيت والزيتون واللبنة حدّثوا بلا حَرَج. لَم يتركْ لنا حكّامُنا شيئاً. خبزُ الإفرَنجي الذي كان أولادُنا يتمتّعونَ بطعمِه المقرمِش ولّى هوَ أيضاً. كنّا نستغِلُّ لُبَّهُ لنضعَهُ في الفرن مغطّساً بالحَليب والقَطر فيخرجَ على شكلِ قالبِ حَلوى تتباهى المطاعمُ المصنَّفَةُ ” ميشلان ” اليوم بإطلاقِ عليه أسماءَ رنّانَةٍ من قَبيل ” بان بيردو “. أبقى لنا حكّامُنا الذكريات ولربّما يستحدثونَ في الأيام المقبلاتِ طريقَةً مبدِعَةً لرفعِ الدعم عن ذكرياتنا وهي آخرُ ما تبقّى لنا في وطنٍ يُغتَصَبُ كلَّ يومٍ على مرأى منّا جميعاً.
وحده كوبُ الشاي الذي كان يرافِقُ منقوشَةَ الصّباح سيبقى على الأرجَح على حالِه. يعودُ الفضلُ إلى جزيرَةِ سيريلنكا التي تكرّمَتْ علينا بعد انفجارِ المرفأ بكمياتٍ كبيرَةٍ من الشاي السيلاني هذا إذا وُزِّعَ قليلاً منه لَنا. كلُّ ما علينا تكبّد تكاليفِه هوَ قليلٌ من السكّر إذا توفّر وبعضُ الماء السّاخِن إذا تسنّى للفقراء تكبّد تكاليفِ تسخينِه. صِدقاً لا أدري كيف يتدبّرُ الفقراءُ في وطني أمورَ مأكولِهِم ومشروبِهِم في بيوتِهِم. أكادُ أُقسِمَ أن هناك داخل البيوتِ اللبنانية قصصٌ تُروى عن القهر والدّمع يمكنُ أن يستأنسَ بِها كبارُ مُخرِجي هوليود لينتِجوا فيلمَ العصر. فيلمٌ عن بيافرا الشرق الأوسَط. بيافرا منسيّةٌ وسطَ جائحةِ كورونا ومسلسلاتِ اللقاحاتِ التي تتنافسُ أوروبا والصين وأميركا وروسيا على أبوّتِها.
هناك ثورةٌ آتيَةٌ لا مَحالَة. لا أحد يتصوَّرُ شكلَها أو مآلَها. ثورةٌ على نِظامٍ أكلَ أولادَه وشَرِبَ مِن دَمِهِم وأطعَمَ بقاياهُم للأزلامِ والأتباع. ستبارِكُ جدّتي من قبرِها هذه الثورَة. بأصابِعِها الرائِعَة ستنقّشُ أرغِفَة الثورة. ستشارِكُ فيها أيضاً كلُّ أشجارِ الزيتونِ المُعمّرَة. ثورَةٌ قائدُها الجوع وجنودُها الناس الأوادِم الذين سيتركونَ بيوتَهم قريباً ويملأونَ الشوارع والأزقَّة. ثورةٌ لا تشبِه 17 تشرين. غيرُ ملوّنَةٍ وغيرُ مرتزَقَةٍ وغيرُ مربوطةٍ بدولةٍ أو سَفارَة. ثورةٌ شِعارُها منقوشَةُ الفقير وربطَةُ النعناع عِرقاً عِرقاً. عِرقُ النعناع سيصيرُ الشِّعارُ بعد أن يبِسَتِ العُروقُ وتعفّنَتِ الوعود. ثورةٌ بِفوضى مؤقتة قبلَ تحقيق وطن دائِم.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.