نقلا عن المركزية –
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل، قال في عظته: “المسيح قام من بين الأموات ووطىء الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور. نتذكر اليوم حادثة شفاء المخلع، الذي بقي مريضا مدة ثمان وثلاثين سنة، وطوال تلك السنوات لم يجد إنسانا يساعده ويلقيه في البركة لكي يبرأ من مرضه. لقد وصل هذا المريض إلى حد اليأس، إذ كان بعيدا رمية حجر عن الشفاء، لكنه لا يملك سبيلا للوصول إليه لأن آخرين كانوا يسبقونه. جاء المسيح إلى المخلع ودخل معه في حوار، مانحا إياه فرصة للتعبير عن ألمه، والبوح بمشكلته. سأله: أتريد أن تبرأ؟ لكن المخلع، الذي يئس من إمكانية شفائه، لم يجب: نعم، أريد أن أبرأ وأغادر هذا السرير الذي يئست من النوم عليه بلا حراك، بل أعرب عن سبب استحالة شفائه قائلا: ليس لي من يلقيني في البركة متى تحرك الماء. راح المخلع يدعم فقدان الأمل بحجج المنطق. ففي منطقه البشري شفاؤه مستحيل، وسيبقى على حاله بين حي وميت، إلى أن ينطلق من هذه الحياة. لقد وصل إلى تسوية مع مرضه المزمن، وهذه التسوية مدته بالقوة وسط يأسه، حتى يصبر على جسده المشلول”.
أضاف: “لم يتخيل هذا المريض أن الذي يمنح الشفاء، الفاعل من خلال البركة الغنمية، سيزوره كإنسان، ويمنحه الشفاء المرجو من البركة إنما بطريقة أخرى. شفى المسيح الشلل الفكري الذي وصل إليه الرجل بسبب اليأس. أطاح بيأسه عندما قال له: قم احمل سريرك وامش، وللحال تعافى المريض. قام وحمل سريره على ظهره مبينا العجب الحاصل فيه أمام الجمع كله. أعلن هذا الفعل شفاءه من شلل الجسد والأهم من شلل اليأس. أسلحة الشيطان كثيرة، اليأس من أقواها. يقول القديس بورفيريوس الرائي: اليأس وخيبة الأمل هما فخان شيطانيان يجعلاننا نفقد شهيتنا للجهاد الروحي”.
وتابع: “يهاجمنا الشرير بحجج كثيرة توصلنا إلى أنواع ودرجات مختلفة من اليأس القاتل. الصعوبات المعيشية والضيقات والفشل المهني والأزمات الإقتصادية والفقر، إضافة إلى المرض والأوبئة والموت والترمل واليتم، كل هذه تظلم الآفاق أمامنا إن لم نواجهها بطريقة صحيحة، بالإيمان والرجاء. عندما لا يتوفر من يشدد الذين يمرون بهذه الصعوبات، ينمو في نفوسهم شعور شديد بالوحدة، ويختبرون بشدة قول المخلع: ليس لي إنسان. الخيبات من أشخاص وزعماء وقوانين جعلها البشر أصناما يعبدونها، تؤدي بدورها إلى اليأس. العالم كله يزداد ابتعادا عن الله، وينقاد إلى الدمار الذاتي. مؤمنون كثيرون يصادفون أعداء الإيمان، وظلمة الشر في كل مكان، ولا يرون بصيص أمل ونور. يئسوا من مستقبل العالم، لكن عندما يرى الإنسان الظلام في كل مكان، هذا يعني أنه في حالة روحية خطرة. العالم كله تحت وطأة الشرير (1يو 5: 19)، إلا أن أخصاء المسيح ينتصرون على العالم بإيمانهم ورجائهم. عندما يعتاد الإنسان على رؤية الظلمة وحدها، قد يأتي وقت يصبح فيه بخطر رؤية النور ظلاما”.
وقال: “يخترق اليأس نفوسنا بطرق متعددة، ويتوطد فينا بحجج منطقية، لكن المسيح، كلمة الله، يعمل بأساليب لا يستوعبها منطقنا. لذا، علينا ألا نحدد مستقبلنا مسبقا، مستندين إلى أفكارنا. المسيح يقلب التوقعات كلها، فهو القيامة والحياة، وكما أنبع الحياة من القبر، ومنع الموت من أن يسود مجددا، هكذا يمكنه أن ينبت الرجاء من صخرة اليأس البشري، مهما كان هذا اليأس قاسيا. فلا مصاعب الحياة، ولا الأزمات المعيشية، ولا إرادتنا الضعيفة، ولا الشر الذي في العالم، يمكنها أن تقوى على محبة الله الكلي القدرة. يكفي أن نعترف قدامه بضعفنا، بإيمان صادق، ثم نترك له العمل بحسب حكمته”.
أضاف: “لبنانيون كثيرون يعانون مثل المخلع المذكور في إنجيل اليوم. مرت سنوات طوال والبلد يتخبط في مشاكله ومآسيه، والشعب مشلول، يدعم فقدان الأمل بحجج يظنها منطقية، كفكرة أن هذا الزعيم أو ذاك المسؤول سينتشل البلاد من الوضع الأليم، الوضع الذي لا يزال على حاله منذ عقود. يتناسون أننا، في لبنان، ليس لنا إنسان يرمينا في بقعة ضوء متى حل الظلام. زمن الهامات ولى وأصبح كل مسؤول يبحث عن مصلحته الخاصة، أما مصلحة الشعب المقيم، أو المهاجر بسبب عدم مسؤولية المسؤولين، فلا أحد يهتم بها. وصل الشلل الفكري بالقيمين على البلاد إلى حد المس بلقمة عيش شعب هرب منهم والتجأ إلى بلدان شقيقة ليعيش ويعيل من بقي من ذويه في لبنان. لو كان مسؤولونا متحررين من التخلع العقلي، لتعلموا من بعض الدول المحيطة التي سبقتنا كيف يعمرون بلدهم ويحولونه إلى منارة في الأخلاق والعمران والاقتصاد والسياحة، وكيف يجعلون من لبنان بلدا محترما، يحترم أبناءه الذين يعيشون حال شلل دائم فاقت سنوات المخلع الثماني والثلاثين، ويحترم نفسه أولا ولا يترك أي مجال، لأي كان، كي ينتهك كرامة البلد وأبنائه، كما حصل أخيرا مع المواطنين السوريين النازحين إلى لبنان هربا من بلادهم، الذين جابوا الشوارع مستعرضين علم بلادهم وصور رئيسهم، الذي أعادوا انتخابه، تحت أنظار المسؤولين والمواطنين. هل يقبل إخواننا السوريون أو غيرهم من الإخوة العرب أو الأجانب أن يجوب لبنانيون شوارع مدنهم منشدين ما يستفزهم، ورافعين راية بلدهم؟”
وسأل: “إلى متى يهان شعبنا من مسؤوليه؟ حتى متى يعيش أهلنا في قلق دائم غير عالمين متى يتزعزع استقرارهم بسبب انفجار يدمر حياتهم، أو بسبب شل مؤسساتهم وسرقة مدخراتهم، أو بسبب غريب أو جار يضمر لهم الحقد والشر، أو بسبب تصريح من هنا وموقف من هناك؟ ترى هل كنا بحاجة إلى الخضة الديبلوماسية التي أوقع لبنان فيها من يفترض به أن يكون رأس الديبلوماسية والأكثر ديبلوماسية؟ هل نحن بحاجة إلى مزيد من العزلة عن العالم وعن محيطنا الذي استقبل أبناءنا حين هجرهم ما أوصلهم إليه الزعماء والمسؤولون؟ وهل يجوز أن ينقاد المسؤول بانفعاله؟ إرحموا البلد وأبناءه وحافظوا على ما تبقى من تلك الصورة الناصعة التي كانت للبنان. فوضى وانهيار وإخفاقات وسقطات وتعطيل مؤسسات. هل هذا هو لبنان الذي عرفناه وعرفه آباؤنا؟ تتراكم الأزمات ولا أحد يتحمل المسؤولية أو يحاول إيجاد الحلول. إلى أين تأخذون البلد؟ رحم الله رجال الدولة الكبار الذين صنعوا مجد لبنان، وبنوا مؤسساته، ودعموا أسس ديموقراطيته، واحترموا دستوره، وعرف كل واحد منهم حده فوقف عنده. رحم الله القامات التي صنعت للبنان ديبلوماسية رائدة تعكس صورته ووجهه الحقيقي، وجه الدولة الديموقراطية المتقدمة الراقية المنفتحة، وجه الدولة المتعددة الأديان، المؤمنة بالحوار، تلك التي لعبت دور الوسيط بين المتخاصمين ونجحت في تقريب المتباعدين، وشكلت جسر تواصل بين الشرق والغرب. أين نحن من كل هذا وقد نشبت الخلافات بين حكامنا والمسؤولين، وهدرت ثروات البلد وأموال المواطنين، وسقطت القيم والمبادىء والقوانين، فإذا الإبتزاز السياسي سيد الموقف، والمنفعة الخاصة تعيق الإصلاحات الضرورية، وشبق السلطة والنفوذ يعطل تأليف حكومة نحن بأمس الحاجة إليها كي تتخذ التدابير الضرورية ليستقيم الوضع؟”
وتابع: “نحن في حاجة إلى دم جديد، إلى أشخاص إصلاحيين يضعون نصب أعينهم مصلحة البلد وخلاصه لا مصلحتهم ومصلحة أبنائهم. نحن نفتقر إلى القرار الشجاع ممن هدروا الوقت والمال وعادوا بلبنان إلى الوراء وأوصلوه إلى ما وصل إليه وأخفقوا في كل ما قاموا به. حتى الكارثة التي حلت ببيروت وأهلها لم يستطيعوا جلاء حقيقتها، وأخشى أن تكون هذه الحقيقة قد دفنت تحت ركام المرفأ وبيوت المواطنين المنكوبين الذين شردوا ومات أبناؤهم بسبب الجشع والطمع والتفرد والتسلط وعدم المسؤولية. قوة الحاكم تكمن في قراره الصائب الحكيم المستند إلى إرادة الشعب وحاجاته. هدف السياسة خدمة المجتمع لا استخدامه، وعلى كل من يتولى مسؤولية عامة أن يكون على اطلاع تام بكل ما يجري في نطاق عمله، وعلى بينة من حاجات الشعب وتطلعاته. ترى هل يعي المسؤولون الوضع الحقيقي لبلدنا؟ وهل يطلعهم من يحيط بهم من مستشارين ومساعدين على الحقيقة، كل الحقيقة؟ هل يصدقونهم القول أم يكتفون بكيل المديح لهم؟ هل يدركون أننا نعيش في شبه عصفورية كل فرد فيها يتكلم لغته ولا أحد يفهم لغة الآخر؟ هل يعون أن علينا صنع قدرنا بأيدينا وعدم انتظار نتائج المفاوضات والمحادثات وكل ما يجري حولنا، وعدم تعليق مصير البلد بأي عامل خارجي، لأننا وحدنا نعرف حاجاتنا ونستطيع، إن شئنا، أو إن صدقت النيات، معالجتها؟ شيء من التواضع والتضحية ضروري. ما يعقد الأمور التحجر الفكري والتقوقع والتعنت عوض الحوار والتلاقي. نحن بحاجة إلى البناء بعيدا من النزاعات المصلحية. وما زلنا نعول على الضمائر الحية والنيات الصافية، علنا نصل”.
وختم عوده: “في النهاية، نحن ليس لدينا إنسان يساعدنا، إنما لدينا رب يخلصنا. هو أنقذنا من الموت بموته وقيامته، ومثلما شفى المخلع من شلله، كلنا أمل بأنه سيقيمنا من سرير الركود ومن يأس الظلم والعوز. نصلي من أجل شفاء بلدنا من كل مرض وسقطة وشدة. كما نصلي من أجل أن يمد الرب الإله يده وينتشل اللبنانيين من ظلام اليأس إلى ضياء الرجاء. وكما يقول النبي داود في مزاميره: تشجعوا ولتتشدد قلوبكم يا جميع المتوكلين على الرب”.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.