نقلا عن المركزية –
في القاموس الدستوري والقانوني، يدل لقب “دولة الرئيس” إلى نائب رئيس مجلس النواب، ونائب رئيس مجلس الوزراء. لكن في الممارسة السياسية اللبنانية، التي تركت آثارها الكبيرة والكثيرة في الذاكرة الجماعية، لا أحد يشك في أن هذا اللقب بات مرادفا لصيقا للنائب ميشال المر، التسعيني الذي لم تقو عليه السنوات، قبل أن يدق وباء كورونا ساعة الرحيل الصامت.
ميشال المر، السياسي المحنك، وصاحب المعارك الكبيرة انتخابيا وسياسيا وشعبيا، وملك “المتن” بمفاتيحه البلدية والاختيارية، كان أكثر من مجرد شخصية أرثوذكسية مرت في صفحات حياة هذا الوطن. أثبت الرجل فعلا أنه الرقم الصعب في المعادلة اللبنانية، والأقنوم الذي لا يمكن تجاوزه في الاستحقاقات الكبرى. بدليل ما جرى في انتخابات 2018 النيابية في المتن، المعقل الأول لـ “أبو الياس”، وحلبة المواجهة الكبرى بين الموالين والمعارضين لعهد الرئيس ميشال عون.
فأبو الياس نجح حيث فشل كثيرون ولا يزالون، على رغم مهارتهم في حياكة القوانين الانتخابية على قياسهم لتكريس سطوة المنظومة التي ينتمون إليها. ذلك أن التسونامي المسيحي الذي أحدثته عودة العماد ميشال عون من المنفى والذي خافه الزعيم وليد جنلاط نجح في اختراق حصن ميشال المر المتني، حيث يحضر أيضا الكتائبيون والقوميون والطاشناق بقوة لا يستهان بها. إنطلاقا من القوة الشعبية الكبيرة هذه، اعتقد بعض أصحاب الصبغة البرتقالية أن قانونا انتخابيا نسبيا مطعما بالنكهة الأكثرية الطائفية النافرة يمكن أن “يقفل” بيتا من البيوتات السياسية الكبيرة في البلاد. لكن الرهان كان خاسرا، لأن أبو الياس شكل في اللحظات الأخيرة لائحة لم يكن الهدف منها إلا العودة مرة أخيرة إلى المجلس النيابي، قبل أن يحل المرض بثقله على جسد كانت السياسة وزواريبها نبضه الأول.
على أن أهم ما يجدر استخلاصه من هذه التجربة الفريدة أن ميشال المر أتقن حياكة التحالفات المتكيفة مع أحداث البلاد المتقلبة ومزاجها الشعبي المتغير إلى حد أنه كرس نفسه حالة شعبية قائمة في ذاتها، امتلكت سر النجاح: الرصيد الشعبي والمفاتيح الانتخابية، إلى حد أن البعض يتحدث عن أن بلديات المتن كلها محسوبة على ميشال المر،الوزير والنائب وراعي المشاريع الانمائية والعمرانية، وملك “البوانتاجات” الصائبة، في استعادة لمهارة أتقنها الرئيس الراحل كميل شمعون في زمن سياسة الرجالات الكبار. ولأنه ملك البوانتاجات وبطل حلبات المبارزة مع الخصوم الأشد قسوة، فإن تجربة الخلاف، أو على الأقل الاختلاف في وجهات النظر، مع العماد أتت بعد فوز ميشال المر بمقعد أرثوذكسي في المتن، متحالفا مع تكتل التغيير والاصلاح الذي كان يتزعمه عون في مرحلتي انتخابات الـ 2005 و2009. مع العلم أن المر كان دخل البرلمان للمرة الأولى متحالفا مع الكتائب، في سبعينيات القرن الماضي، بعد تجربة فاشلة أولى مد فيها اليد إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وما بين القرن الماضي والألفية الجديدة، معارك كثيرة وكبيرة حاضها النائب الراحل متنقلا بين المقعد النيابي والمنصب الوزاري، من دون أن يفوته لعب الأدوار الفاعلة في صناعة الرؤساء، أو على الأقل في الاسهام في وصولهم إلى بعبدا. فكان الأرثوذكسي الدافع في اتجاه تحقيق الأحلام الرئاسية المارونية أولا. وقد كانت له يد طولى في انتخاب الرؤساء بشير الجميل الذي تم اغتياله لاحقا والياس الهراوي واميل لحود (الذي ربطته به صلة قرابة فرضها زواج نجله (الوزير السابق) الياس المر من كارين لحود، كريمة الرئيس السابق، مع العلم أن التجربة هذه عادت وباءت بالفشل). وفي وقت لاحق، لعب الوزير السابق الياس المر دورا مع واشنطن في انتخاب الرئيس ميشال سليمان، بعدما كان الرجلان تعاونا في أروقة وزارة الدفاع، خصوصا في مرحلة معارك نهر البارد، المحطة التي صنعت من سليمان نجما رئاسيا ومرشحا لملء فراغ، كان ميشال المر يكرر دوما أنه لن يسمح بحدوثه.
على أي حال، فإن الاسهامات الرئاسية التي ستحفظها الذاكرة الجماعية للمر الأب، بغض النظر عن الأشخاص، تتجاوز كونها مسارات تهدف إلى تأمين تداول السلطة في جمهورية الديموقراطية الطائفية التوافقية. ذلك أنها دليل قاطع إلى أهمية شبكة العلاقات التي نسجها أبو الياس مع مختلف أطراف الداخل والخارج. فكان صديق الأميركيين والمجتمع الدولي، وحليف السوريين، من غير أن يمنعه ذلك من الانفتاح على بكركي التي كان سيدها البطريرك الراحل نصرالله صفير، رأس حربة الحرب السياسية على الوجود السوري في البلاد. وهو ما يشهد عليه نداء المطارنة الموارنة الشهير الذي خطه صفير شخصيا، وأعطى نفحة أمل في الحرية لم يتأخر شباب الأحزاب المسيحية (التيار الوطني الحر والقوات والكتائب) في التقاط إشارتها التي انفجرت في الشارع في أحداث 7 آب 2001 ، وذلك في عهد… الياس المر وزيرا للداخلية .
وإذا كانت هذه المحطة هي الأبرز في مسيرة الياس المر في وزارة الداخلية، فإن أحدا لا ينكر على والده محطات كثيرة طبعها باسمه في الوزارة نفسها، أبرزها الانتخابات النيابية عامي 1996 و2000، التي يقول بعض العارفين بكواليس تلك المرحلة أنها شهدت ما يمكن اعتباره تلاعبا بنتائج الانتخابات، بذريعة انقطاع الكهرباء عن أقلام الاقتراع، على سبيل المثال. إلا أن انتخابات المتن الفرعية عقب وفاة النائب السابق ألبير مخيبر تبقى واحدة من الوقفات البارزة في حياة ميشال المر، على اعتبار أنها كرست المبارزة بينه وبين شقيقه غابريال المر، الذي كان ينافس ابنته ميرنا (رئيسة اتحاد بلديات المتن) على المقعد الشاغر. كل هذا يدفع إلى القول إن ميشال المر صنع عن حق منصب وزير الداخلية وجعله مرادفا لشخصه، وحقق اكثر من انجاز كان ابرزه ما يعرف بـ”طابق المر” الذي شكل خطوة مهمة في مجال الاعمار، إلا أنه سجل إنجازات في وزارات أخرى، أهمها مد شبكة الاتصالات على مستوى الوطن، عندما كان وزيرا للبريد والاتصالات، وكلف مهمة جمع سلاح الميليشيات عندما عين على رأس وزارة الدفاع، ما كلفه محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة. ولكن هذه لم تكن المحطة الوحيدة للمر الراحل اليوم مع الميليشيات المشاركة في حرب الآخرين، كما سماها قريبه العملاق غسان تويني (الذي اقترن نجله الشهيد جبران بميرنا المر، في تجربة أولى أجهضها الفشل بعد ولادة (النائبة السابقة) نايلة تويني وشقيقتها ميشيل). ذلك أن ميشال المر من رعاة وراء ولادة الاتفاق الثلاثي بين القوات اللبنانية، ممثلة بايلي حبيقة، ووليد جنبلاط عن الحزب الاشتراكي ونبيه بري عن حركة أمل. ولا تنسى الذاكرة اللبنانية أن هذا الاتفاق ولد انتفاضة سمير جعجع على رئيس جهاز الأمن في القوات ايلي حبيقة، عام 1986، والتي يحملها البعض مسؤولية اقفال جريدة الجمهورية التي يملكها آل المر، قبل أن تعود إلى الحياة والحبر عام 2009.
حياة مديدة عرف ميشال المر كيف يحولها من مجرد مرور للزمن إلى فرص لترك البصمات في حياة الشعوب، مع العلم أن خيارات المر وممارساته لا تلقى اجماعا في كثير من الأحيان. لكنه بالتأكيد رقم صعب طبع الأزمنة الصعبة بما لا يقوى عليه مرور الوقت وتمزيق الرزنامات.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.