تحت شرشف تخت
بِقَلَم روني ألفا
جريدة النهار الإثنين ١٤-٦-٢٠٢١
الكتابةُ عن موتِ أمي إقرارٌ واعترافٌ بأنها ماتتْ حقّاً. محاولةُ الإحجامِ عن تحويلِها الى مقالةٍ مكتوبةٍ والترددُ عن الكتابةِ عن موتِها كان حتى وقتٍ قصيرٍ والى حدٍّ ما عدمُ اعترافٍ بسلطةِ ملكِ الموتِ وتمرّدٌ على سلطانه. يعرّجُ ملكُ الموتِ على الجميعِ باستثناءِ الأمهات. أَنْ تتحولَ أمي اليوم صباحاً الى مجموعةِ كلماتٍ وكتلةِ حبرٍ فهذا يعني انه لا بد لي من الإعتراف انها عقدتْ قرانَها على هذا الملك المُهيب وذهبتْ برفقته إلى جولةِ ” أُفُق ” وأني شاهدٌ غصباً عني على ذلك.
اعتقدُ لا بل أجزمُ بأني هرمتُ دفعةً واحدةً بعد ان أسدَلتْ أمي الستارَ عن حضورِها المادي بيننا. منذُ أسبوعٍ خلى كنتُ أغفلُ عن عمري تعداداً. في حضورِها كان يتبدّى لي على غرارِ ما كان يشعرُ به أخوايَ أني مرشحٌ لأيِّ غباوةٍ أو هفوةٍ أو مغامرة. إقترافُ أي جنحةِ مراهقةٍ هو جزءٌ من انحنائكَ لاحِقاً لتوبيخِ أمك. ارتكابُ الغباوةِ جميلٌ لأنه يُستَتبَعُ بغفرانِها.
تمَّ الأمر. اتَّصَلوا وأبلغونا أنها سافَرت من جسدها. المطلوبُ زيارةُ وجهِ أمي الجَميل في المستشفى. وجهٌ باتَ تحت شرشَف تخت. لم يسبق لي أن كشفتُ عن وجهِ أمي المخبَّأ تحت شرشفٍ أبيض. خروجٌ سافِرٌ عن حَياةٍ أشبَهُ بفيلم ودخولٌ أكثرُ سُفوراً في فيلمٍ أشبَهُ بحَياة. ثلاثةُ أشقاءٍ يرفعون ملاءةً بيضاءَ عن وجهِ أمهم. أولُّ ما تلمَّسَتهُ أصابعُنا ملمسُ حريرٍ في شعرها الأبيض. لطالما تباهتْ أمي أنها لا ” تَصبُغ “. فاتَني في وحشةِ التفرّسِ بِهناءِ نَومِها الإحتفاظُ بخصلة. كان البكاءُ في العنايةِ الفائقةِ يُخاطبُ العنايةَ الإلهية.
أغلبُ تعابيرِ التعزيةِ بأمي تركَّزَتْ على أن اللهَ يحبُّها. بقصدٍ شريفٍ أتساءلُ عن قصدهِ تعالى مِن تَمَظهُرِ حبِّه على هذه الشاكلة. أن يأخذَها اليه بسرعة. ألا يطيلَ في عذابها. يجسِّدُ الله محبَّتَهُ لعبيدهِ بطرقٍ غريبةٍ أحياناً. لولا كآبةُ الموقفِ لصحَّ نعتُ هذا السلوكِ الإلهي بالطَّريف. بالكادِ تسنّى لنا تحضيرُ مراسمِ دفنِ أمي. بينَ حياتِها شبه الطبيعية وموتِها كانَ المحملُ والإكليلُ وورقة النُّعيّ وترتيباتُ الدفنِ في الكنيسة يتزاحمون. كلُّ ما كان يلزمُ من لوازمِ دفنها أرادَ أن يبدو الأفضل.
عِنْدَ مدخلِ المدفنِ يمكنُكَ التأملُ بخزائنٍ على شكلِ أدراجٍ محفورةٍ كأنفاقٍ في الجدار. مئاتٌ من الجوارير تُقفِلُ فوهاتَها بواباتٌ مربعةٌ حديديةٌ ملصَقٌ على كل منها إسمُ المرحومِ أو المرحومة. قلةٌ قليلةٌ من الأحباءِ رافقونا الى حيثُ أُنزِلَ المحمل. العنوانُ ليسَ بِحاجةٍ الى ” جي پي أس “. بوابةُ حديدٍ مفتوحةٍ بانتظارِ دخولِ موتٍ أفقي.
قبلَ ان يحطَّ حَمَلَةُ التابوتِ بأمي على الأرض حانتْ مني التفاتةٌ صوب اليمين على الأسفل. جارورٌ عليه صورةُ طفلةٍ كان عمرُها ثلاثُ سنوات. قرأتُ على الباب الصغير : ” فراشتنا “. غفلتُ لبرهةٍ عن حزني. تماهيتُ مع حزنِ والدَين دفَنا فراشتُهما في الردهةِ نفسِها التي أدفنُ فيها أمي.
كان لا بدَّ من نظرةٍ أخيرة. رشّةُ ترابٍ وشيءٍ من ميرونٍ أو زيتٍ مقدس. وجهُ أمي ينام. لم ينقصْهُ سوى ان ينطقَ بنَعَم حبيبي تلفَّظَ بها آلافَ المراتِ مستَجيباً لطلَبي ووَجَعي وأَرقي وقَلَقي وخوفي من غدراتِ الزمان.
صدقاً لا ندري ماذا يجبُ أن نفعلَ بأشياءِ أمي. أغراضُها ستخاطبُ الحواسَ الخمس لفترةٍ قبل أن يستسلمَ عطرُها هو أيضاً ويهاجرَ معها. ستصبحُ الأشياءُ بلا أمي. ممشطٌ وكتيّبُ صلاةٍ وخِفّانِ مخمليّانِ ونظارتان وقلمُ كلماتٍ متقاطعةٍ وفساتين معلّقة مخضّبة بطيبةِ أمي وحنانِ أمي.
أرسلتُ البارحةَ لصديقةِ العائلةِ عبرَ البريدِ الإلكتروني الصورةَ التي رافقتنا في الصالون حيث تقبَّلْنا التعازي. ساعاتٌ وتعودُ أمي الى غرفتي. يعزّيني ولو قليلاً أن تتحولَ أمي الى صورةٍ في إطار. الى جانبِ أبي ستتجاورُ الصورتان وتتشاوران في اكتمالِ يُتمي. من الآن وصاعداً أنا رجلٌ كَهل يهرمُ على مَهل.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.