فرنسيس والسيستاني في زمن العشّارين
بِقَلَم روني ألفا
جريدة النهار صباح اليوم الإثنين ٨-٣-٢٠٢١
دراساتٌ أركيولوجية معطوفةٌ على أخرى أنتروبولوجيّة ترجّحُ أن النبيَّ إبراهيم عليه السلام وُلِدَ في مدينة أور حيث معبد الزقورة الكبير، هذا المعبدُ المتدرّجُ الذي
يعودُ بناؤه إلى حوالي ألفَي ومئة سنة قبل المسيح. لا تدّعي هذه الأبحاثُ العِصمَةَ إنما تدَّعي الفوزَ المستأثِرَ بسلالَة نبي عَزيز والإعتدادَ بِمسقِط رأس.
مِن سَهلِ أور التي لَبِسَت أحلى أزيائِها لإستقبال البابا فرنسيس كانت عِظامُ ناصر بن سعدون ترقصُ فرحاً تحت ثرى مدينةٍ سُمِّيَت على اسمِه ” الناصرية ” فكأنها تماهَت مع ” الناصِرة ” التي وَهَبَها الناصِريُّ غَلَبةً ساحِقَةً على عَتماتِ القبور وقيامةً دحرجت صخرةً غليظةً من على باب المدفن.
كلُّ ما في زيارةِ الأبِ الأقدس الى العراق يعبقُ بالرموز. مِن النَّجفِ حيثُ التقى المرجعَ السيستاني كانَ الإعلانُ عن اللقاءِ قبلَ حدوثِه أكثرَ رمزيةً مِن اللقاءِ نفسِه. حمامَتا سلامٍ من على يمينِ لَوحةٍ مشترَكَةٍ للقامَتَين وعلى يسارها، ظَلَّلَتا المُحتَفى بلقائِهِما. تلتقي الديانَتانُ المسيحيةُ والإسلاميَّةُ على روح قدس هو ثالثُ الأقانيم المتساوي جَوهَراً في الأولى وعلى الملاك جبريل عليه السلام في الثانية.
المُغرِقُ في الرمزيَّةِ هوَ وضعُ اللوحَةِ في كنيسَةِ سيّدَةِ النّجاة وسط بغداد مُذَيَّلةً بِعبارَةٍ تَوجّهَ بِها المَرجَعُ السيستاني للمسيحيين قائلاً لَهم وفيهِم: أنتم جزءٌ مِنّا ونحنُ جِزءٌ مِنكُم. ليسَ جزءاً مضافاً على جِزء. كلُّ إضافَةٍ تجعَلُ الفصلَ بينَ الجزئَينِ سَهلاً وتؤكِّدُ طبيعةَ كلِّ منهما المتنافرَة والمتناقِضَة. جِزءانِ متداخِلانِ تَماماً كما يتداخلُ الملحُ والماءُ فتَستَحيلُ تَجزئَتُهُما وفصلُهما وإعادَةُ كلِّ منهُما إلى كيانيَّةٍ منفصِلَةٍ أو متنافِرَة.
كنيسَةُ النّجاة التي احتَضَنَت خمسينَ جُثماناً لِمؤمِنينَ أبرياء بعدَ تعرُّضِها في العام 2010 إلى هجومٍ ل ” القاعِدَة ” فجّرَ فيها الإنتِحاريّون أَنفسَهم داخِلَ الكنيسَةِ خلالَ الإحتِفالِ بالذبيحَةِ الإلهيَّة. بعدَ إحدَى عشرَةَ سَنَةٍ زارَ البابا مدينَةَ النّجَف المقدّسَة وبارَكَتْ صَلاتُهُ ولَو عَن بُعد أرواح السريان الكاثوليك الذينَ ارتَقوا شهداء.
لَم يخرُج البابا فرنسيس عَن مَسارِ الطوباوي يوحَنّا بولس الثاني. كنيسَةُ النّجاة أيضاً في العام 1994 حرَّكَت كارول فوتجيلا فَدَعا إلى عَقد سينودس خاص في الفاتيكان مِن أجل لبنان. أصرَّ يَومَها أن يشارِكَ فيه ممثّلونَ عن الطوائِف الإسلاميَة اللبنانية في سابِقَةٍ اعتُبِرَت تاريخيَّة. السابِقَة هي تَخصيص لبنان بسينودس بالرّغم مِن أنَّ مَجامِع بهذه الأهميَّة لا تُعقَد سِوى لقارّات. أن يَعتَبِرَ البابا الرّاحِل يوحنّا بولس الثاني لبنان بحِجم قارَة يؤكِّدُ أنَّ بلَدَنا رئَةٌ للبشريَّة تتنفّسُ منها المحبّة والحريَّة.
يُقَدَّرُ عددُ المسيحيينَ في العِراق اليَوم بسبعمئَةِ ألفِ نسَمَة على وجهِ التّقريب أي ما يقلُّ عَن ثلاثَةٍ بالمئَة مِن مجملِ عدد سكّانِ بلادِ الرّافِدَين. في لبنان لا أرقامَ دقيقَةً عَن ديموغرافيا المسيحيين سِوى أنهم مشروعُ هجرَة. في الخارِج هم دياسبورا. في الدّاخِل أضرار جانبيَّة. داعِشُ فساد قطَعَت أرزاقَهُم واستَبْقَت أعناقَهُم. لا أظنُّ أنّهم يتعدّونَ العشرينَ بالمئَة إذا عادَ عَن رأيِه مَن منَّ عليهِم بإيقافِ العَدّ وقرَّرَ إيكالَ أمرِ تَعدادِهِم إلى شَرِكَة إحصاء. سيتمُّ وضعُ العَدَد على أي طاوِلَة حِوار في الداخِل أو في الخارِج. مِن النّجَف وبغداد ومعبدِ أور والسومريَّة رَفَع البابا فرنسيس بركَةَ أصابِعِ يِدِه اليُمنى محاوِلاً عَكسَ حركَة التاريخ. إعادَةُ المسيحيين إلى بيتِهِم المشرِقي وتَبَنّي معادَلَة الماء والمِلح الكميائيَّة في ظلِّ استِحالَةِ تَحويلِ الماءِ إلى خَمر.
مؤلِمٌ أن نصدِّقَ أنَّ وَقارَ البابا ليسَ سِوى إيقاظ لنوستالجيا مسيحيَّةٍ أسَّستْ حَضارَةً ضارِبةً في التاريخ ثمَّ طُرِدَتْ واضطُهِدَتْ ونُكِّلَ بِها. على الأقلّ تبقى مواقِفُ البابا صادقَة. في مَواخير السياسَة الدوليَّة والمحليَّة تبدو لَنا ظهوراتُ الطوباويين وعِظاتُهُم حولَ حقوقِنا وكراماتِنا أسوأَ مِن الذينَ حطّموا تماثيلَ مريَم العذراء وأنزلَوا المَصلوبَ عن صليبِه ودنّسوا ألوهَتَه.
ربَّما كُنّا بِحاجَة إلى زيارَةٍ بابويَّةٍ تقمَعُ المُسحَاءَ الجُدُدَ الذينَ أمعَنوا فينا إفقاراً وتَهميشاً فأضحَينا أضاحٍ مَذبوحين في مسالِخ البرامج الإنتخابيَّة وقوانين الإنتخاب وفي سجالاتِ الأثلاثِ الضامِنَة والأرباعِ المُحَقَّقَة والأعشارِ المكَدَّسة في جيوبِ أتباعِ زَكّا رئيسِ العَشَّارين.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.