خدمَ البطريركُ الراحلُ بولس بطرس المعوشي أربعَ عشرةَ سنةً كزائرٍ بطريركيٍ في إنديانا وكاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية متفقداً أحوالَ الموارنةِ هناك وذلك قبل تنصيبه بطريركاً خلفاً للبطريرك عريضة بتعيينٍ من البابا بيوس الثاني الذي اتخذ قراراً بهذا الشأن على خلفيةِ إخفاقِ مجلسِ المطارنة يومَها في الإتفاقِ على إسمِ البطريركِ الجديد.
الطاعةُ لروما والإلتزامُ بمرجعيتها إنما دُونَ الخروجِ عن مبدأ السيادةِ الذاتيةِ كانا وما يزالانِ جزئينِ من سلوكياتِ المؤسساتِ الكنسيةِ المسيحيةِ عموماً والمارونيةِ على وجهِ الخصوص كلَّما كانت آلياتُ الإنتخابِ الداخليةِ أو المراقبةُ الذاتيةُ تتعثّرُ لسببٍ أو لآخَر.
تعيينُ المعوشي من الڤاتيكان لم يشكِّل عائقاً يمنعه من تحقيقِ إنجازينِ تاريخيينِ يُحسبانِ لحبريَّتِه. أولُّهُما استعادةُ أبرشياتِ الإنتشار التي نجحَ المعوشي في انتزاعِ رعايتها فشملَها بالسلطةِ البطريركية من كرسيهِ في بكركي. ثانيهما وقوفُه الصَّلبُ في وجه أحدِ أبرزِ رؤساءِ الجمهوريةِ في لبنان المدججُ بالثقافةِ البريطانيةِ والهوى الأميركي كميل شمعون. أُطلِقَ على البطريرك يومَها إسم ” محمد ” المعوشي للزكزكةِ على خياراته العربيةِ المشرقيةِ في مقابلِ مشروعِ أيزنهاور الذي أراد شمعون آنذاك إشهارَهُ سيفَ نَصارى ضدَّ جمال عبد الناصر وتحقيقَ مكاسبٍ طائفيةٍ وتوظيفَها داخلياً في لعبةِ تمديدِ ولايته.
مدهشٌ مسارُ المعوشي الذي كانت حبريّتُه نتاجَ التدخّلِ الخارجي فقابله بانتزاعِ أبرشياتٍ خارجَ نطاقِ سلطاته الجغرافية واستكملها بالوقوف الى جانبِ القضيةِ الفلسطينيةِ في مرحلةٍ مفصليةٍ من مراحلِ الصراعِ العربي الإسرائيلي. تجربةٌ تستحقُّ مزيداً من التحليل خصوصاً في بُعدِها المُقارَن مع تراكمِ التجاربِ السياسيةِ في لبنان.
لُقِّبَ الرئيس شمعون بفتى العروبةِ الأغرّْ وانتخبَهُ ستةٌ وسبعونَ نائباً رئيساً للجمهورية فيما نالَ نائبُ ” الشعب الكادح ” الشيعيُّ العلمانيُّ عبدالله الحاج صوتاً واحِداً وبدلَ أن يتسلَّحَ شمعون باحتضانِ كل مكوناتِ المجلسِ النيابي له اختارَ عند أولِّ خطرٍ طائفيٍ مفترضٍ العودةَ الى روحيةِ اتفاقيةِ ” سايكس بيكو ” وتطبيقَ أكثر خلفياتها خبثاً وخطراً على كيانِ لبنان مرسِّخاً الوطنَ والدولةَ متراساً طائفياً تماماً كما أراده المندوبان البريطاني والفرنسي سايكس وبيكو بعد انتهاءِ الحربِ العالميةِ الأولى كياناً فاصلاً بين كانتونٍ يهوديٍ مُصطنَعٍ داخلَ ما يُسمّى ” إسرائيل ” وبحرٍ إسلاميٍ متجذرٍ في المشرقِ العربي.
الدعوةُ التي وجهَها البطريركُ الراعي منذ يومين لعقدِ مؤتمرٍ دوليٍ بهدفِ حِمايَةِ نظامِ لبنان السياسي يأتي في المنطقِ نفسه الذي انتهجه الرئيسُ الراحل كميل شمعون ولو بعنوان آخر. هذا الأخير أطلقَه من شرفة قصر فيما أطلَقَهُ بطريركُ الموارنة بعد أكثر من ستين عاماً من شرفة صَرح. في المحصّلةِ يجدُ الموارنةُ على المستوى الإستراتيجي أنفسَهُم بين مشروعين. واحِدٌ عربي مشرقيٌ مع كل تعقيداته وآخرٌ غربيٌ أمميٌ مع كل رمالِه المتحركة.
ما حدثَ في بكركي منذ يومين رَميَةٌ يجبُ التأني في الحكمِ على توقيتِها وأبعادِها. أغلبُ الظنِّ أنه ليسَ هناك ” مومَنتوم ” لسايكس بيكو منقَّح ولا وظيفة لبنان المسيحية المتمثلة بال ” نو مانز لاند ” بين يهود الكيان وإسلام المنطقة ما زالت مطلوبة. المطلوبُ إلحاقُ لبنان بمنظومةِ التطبيعِ ليسَ إلا.
بكركي التي لا غبارَ على نواياها تلعبُ في الوقتِ الضائع. لا الخارجُ في حالةِ إنصاتٍ ولا الداخلُ في حالةِ نضوجٍ لاستنباطِ الحلول. بين كوڤيد ١٩ ودم جمال خاشقجي واليورانيوم المخصّب لبنان ضررٌ جانبيٌ ليس إلا.
في خضم هذا ” الڤاكيوم ” تبدو إثارةُ عاصفةِ ” السلاح غير الشرعي ” بمثابةِ لقاحٍ ضد ضمورِ الحماسةِ الطائفيةِ وڤيتامينٍ للتجييش يصبُّ في رفعِ منسوبِ الطائفية من فاتِرة حَذِرَة الى حامِيَة متوجِّسَة. أيهما كانَ أكثرَ تدميراً للإستقرارِ في بلدنا سلاحُ حزبِ الله أم فسادُ الطبقةِ السياسيةِ التي التهمت أخضرَ الودائعِ ويابسَ المجالسِ والإدارات؟ لو كانت ليرتُنا بخير هل كنّا لنهتفَ ضدَّ حزبٍ أو طائفةٍ أو محور؟ مَن منعَ تشكيلَ الهيئةِ الوطنيةِ لإلغاءِ الطائفيةِ وتطبيقَ اللامركزيةِ الإداريةِ وعرقلَ وضعَ نظامٍ داخليٍ لمجلسِ الوزراء؟ السلاحُ أم عصابةُ الحراميَّة؟ مِن هنا تبدأُ الخارطة والكلمات..
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.