عَن بقعَة زيت عَلى ” الكارنيه “
بِقَلَم روني ألفا
كانَ دفتَرُ العلامات في مدرسَة الفرير عِبارَة عن صفيحَةٍ كَرتونيَّة مطويَّةٍ يتغيَّرُ لَونُها مع التَّرفيع مِن صَفٍّ إلى صَف. من الأزرَق إلى الأخضَر فالأصفَر والأحمَر ليتسنّى لذَوي الطّلَبَة أرشَفَة هذا المستَنَد في خزائِن الذاكِرَة العائليَّة.
الدّفتَرُ المَذكورُ كانَ بِمثابَة سِجِّلٍ عَدلي مطلوبٌ الحِفاظ عَلى نَظافَتِه. مَن لا جرمَ عليه يَكونُ مِن الأبرار والقديسين ومَن تُسَجَلُ عليهِ بحقِّه جنحَةً أو جَريمَةً يَكونُ مَن المَنبوذينَ والمَرذولين. أعتَرِف أنَّ دفتَرَ علاماتي لَم يَكن مشرِّفاً عَلى مَدى السّنوات التي قضيتُها في الفرير. عَلى فِكرَة. كانَ الدّفتَرُ المَذكور يَحظَى بالإحترام نفسِه التي كاَنت تَحظَى عليه الكُتب الباقيَة. كيفَ لا ودفتَر العلامات هوَ إنجيلُ الكُتُب. هيَ أرضيَّة وهوَ سَماويٌّ يَحتَوي عَلى قَدَرِكَ ومَصيرِكَ ونوع المكافأة والعِقاب.
أذكُرُ تماماً أنَّ الخاناتَ الفارِغَة في هذا ” الكارنيه ” كانَت مخصَّصَة للأهل. ما زلتُ أحتَفِظُ ببعض النّسخ منه في خزانَتي. إسمي بِخَطِّ أبي رحمَه الله ثمَّ صَفّي ورقمُ الصفّ ومُحاكاة لِتَوقيع الأب أو الأم تسمَحُ للإدارَة بِمقارَنتهما بالتواقيع الشهريَّة مَنعاً لِمحاولاتِ التّزوير.
لا أذكُرُ مرَّة في حَياتي المدرسيَّة أن زوَّرتُ تَوقيعَ إيٍ مِن والِدَيّ. غالِب الأشهر كانَ التّزويرُ أحد الحلول لتَفادي ” قَتلَة ” أو تأنيبٍ إنما كانَ الخوفُ مِن هذا الفعلِ الشنيع أشدّ وَقعاً في نفسي مِن جلساتِ التأنيب القاسيَة. في بعض الأحيان كنتُ ألوذُ بالنسيان. نِعمَةٌ صرتُ أعرِفُ قيمَتَها مع تقدّمي في العمر. النّسيان ” فَرمَتَة ” لِجهازِكَ العَصَبي. يتيحُ لَكَ تحمّل فقدانِ الأحبَة. مَع قليل من التمرّس يسمَحُ لَكَ بِإلغاء صَديق أو حَدَث قبلَ أن تتابِعَ سيرَك الشائِك في وعورَة هذه الدّنيا.
كانَ المَطلوبُ أنّ يَكونَ ” الكارنيه ” مُغلَّفاً بجاكيتَة نايلون سَميكَة وشفّافَة. الحِفاظ عَلى هذه الوَثيقَة الكَرتونيَّة جزءٌ مِن الحِفاظ عَلى كَرامتِك. نَوعٌ مِن صيانَة لغشاء بَكارتِكَ التربويَّة. عندما كانَ يتسرّبُ الزّيتُ مِن عَروسَة اللبنَة إلى الكارنيه كنتُ أبكي مِن مآقٍ غزيرَة. كانَت بقعةُ زيتِ زَيتون صَغيرَة كَفيلَة بإطالَة صَلاتي المسائية حَوالي دقيقتين. دَقيقَتان لتوسّل ” بوتي جِيزو ” على حائِطِ غرفَتي ليجعلَ سخطَ النّاظِرِ عندَ استلامِه ” الكارنيه ” أكثرَ حِلماً وأقلَّ ضَراوَة.
لَقد حانَ وقتُ الإعتراف العَلَني، اليَومَ وقَد مرَّ أكثَر مِن نصف قرن عَلى حَماقَتي في الرياضيّات، لمشارَكَة الجَميع فيها من دون عِقَد. بدأتْ معاناتي مَع الرياضيات مباشَرَةً بعدَ ” السّرتيفيكا “. عَن جدّ لا أدري كيفَ حملتُ مَعي هذا الضّعف بِنَجاح وثَبات حتى الصّفوف النّهائيَّة.
ظننتُ عندَما دخلتُ كليَّة الحقوق في الجامِعَة اللبنانيَّة أنّي دفنتُ عدوّاً لدوداً في ” الكارنيه ” إلى غيرِ رَجعَة حتى أَتتني مصيبَة مادَّة ” المُحاسبَة العموميّة ” في السنَة الثانِيَة. كانت المادّة المَذكورَة كَفيلَةً بِدَفعي للعَودِ على بِدء واختيار إخِتصاص الفلسفَة في جامِعَة الرّوح القدس في الكَسليك. زَمَطنا مِن المحاسَبَة العموميَّة في الحقوق وعَلِقنا في علمِ الإحصاء في الفلسفَة. تلطّفَ الله بِنا وبمساعَدَة بعض المحسنين مِن رِفاق الدّراسَة وأنهَينا دراسَتَنا الجامعيَة التي أستكملناها فيما بعد بالتسجيل في جامِعة السوربون لمرحَلَة الدّراسات العليا.
بشيءٍ مِن الحَرَج الضّحوك أو قُل بشيءٍ مِن التهكّم المُسالِم عَلى الذات أُراجِعُ ” الكارنيه ” في مدرسَة الفرير. عِزَّتي وذِلَّتي. فيه تَواقيع أبي وعندَ اللّزوم توقيع أمّي التي كنتُ أُبَلَغُ أنها كانت تَحميني مِن إطّلاعِ أبي على ” مآثِري ” وكَبواتي وتلافيف ذِهني الغَليظ.
عرفتُ لاحِقاً أنَّ تَوقيع أمي وعَدَم دِرايَة أبي كانَ جزءاً مِن خِطّة كانا يَتبادَلانِ تَفاصيِلِها. الهَدفُ كانَ دوزَنَة خِشيَتي مِن العِقاب. خشيَة لَم يُرَد لَها أن تصِلَ إلى شَلّ إمكانيّاتي تَماماً إنّما أُريدَ لَها أن تقضّ مَضجَعي عَلَّني أخرُجُ مِن فصيلَة الأغبياء في الرياضيّات إلى فَصيلَة الأولاد العاديّين. الأرجَح أني ما زلتُ مَحسوباً عَلى الفَصيلَةِ الأولى.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.