الحَقير بلا شجرَة عائِلَة
بِقَلم روني ألفا
كلَّما تقدَّمنا في السِنّ تُصبِحُ الحاجَةُ للتفتيش عَن تَفاصيلِ الجذورِ فروعاً وأُصولاً نوعاً مِن فضول إستراتيجي. أصلُنا يستفزُّنا أوّلاً عبرَ السؤالِ عَن الجَدّ والجدَّة ثمَّ عن والِديهِما وتكرّ السُّبَحَة. بعدَ الخَمسين يصبِحُ الإهتِمام بشجرَة العائِلَة موازِياً في أهميَّتِه لأَخذِ حبَّةِ الضّغط صَباحاً. في الكهولَةِ تتحوَّلُ أخبارُ الجُدودِ ومآثِرِهِم ضرورَةً تربويّةً للأولاد والأحفاد. إذا كانَ الأجدادُ ممن مَرّوا مُرورَ الكِرام ولَم يُسهِموا في عصرِ الأنوار أو ثورَة طانيوس شاهين، نخلَقُ لَهم دَوراً ولو متواضِعاً في اي حَدّثٍ جَلَل. ” جدَّتُكَ لأبيك أوحَت لِجبران خَليل جبران شخصيَّة سَلمَى كَرامِة “. ” جدُّكَ لأُمِّك سمّمَ حِصان جَمال باشا الجَزّار “. لا يَبدو لي من هذا المِنظار أنَّ مَقولَة زين الدين عمرو بن الوردي ” لا تَقُل أصلي وفَصلي إنَّما أصلُ الفَتَى ما قَد حَصَل ” مطابِقَة للواقِع.
بالطَّبع إنَّ أكرَمَنا عندَ الله أتقانا إنَّما تَبقَى هذه اللَّوثَةُ التي تجعَلُنا نتفرّسُ في وجوهِ العِصاميين والكِرام مُحاوِلينَ أن نُسلسِلَ ذريَّتَهُم لوثَةً مستَقِرَّةً في لَدُنِ اللّدُن. نحبُّ نحنُ أهلُ الثرثَرَةِ والنّميمَةِ أن نكشِفَ المَستورَ مِن حميمياتِ الناس. نغتَبِطُ على وجهِ الخصوص عندَما نشتَبِهُ بِعلَّةٍ أو كبوَةٍ أو سَقطَةٍ أصابَت عِصاميّاً في تاريخ عائِلَتِه. هذا كانَ جدُّهُ يعمَلُ إسكافياً في كعبِ النّزلَةِ قبلَ بيتِنا وذاكَ خانَ زوجَتَهُ وأنجَبَ مِن العامِلَة المنزليَّةِ وَلداً لَقيطاً شرَّعَهُ بقوّةِ المالِ والواسِطَة. نحنُ شعبٌ نعتَبِرُ أصلَ الفَتَى ما جَناهُ عليهِ أهلُهُ. حتّى في حَفلاتِ التّكريم التي يَحظَى بِها أصحابُ الإنجازاتِ الحَضاريَّةِ الكَبيرَة ننبَري في تبيانِ كيفَ أنّهم وبالرّغم مِن كلّ الموبِقات والمَعوقات التي كانت تُنبِئُ أنّهم سيكونونَ هامشيين حققوا النّجوميَّة. ” قُل ” أصلي وفصلي لأنَّ ما حَصَل لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر.
منذُ سَنَتين تَقريباً ألقيتُ كَلِمَةَ احتِفاءٍ بِكارلوس غصن قبلَ أن تُقلِّده وزارَة الإتصالات وسامَاً هوَ عبارَة عَن طابِعٍ تَذكاريٍ يحمِلُ رسمَه. في اليوم التالي صادَفتُ أحد المُخضرَمين في بلدَةِ جونيه البحريَّة التي يتحدَّرُ منها غصن. هذا بيتُ أهلِه وهذا بيتُ عمِّه. ” جَماعَة لَم يَكونوا شيئاً يُذكَر “. ” هل تعلَم أنَّ فضيحَةً مُدَوِّيَةً ضَرَبَت بيتَهُ وأنه اضطُرَّ إلى طلبِ اللُّجوءِ إلى البَرازيل؟ “. بالنسبَةِ لجيرانِه في مسقِطِ رأسِه أصلُ كارلوس غصن أهمُّ مِما حصَلَ معه. لا يمكنُ أن تهرُبَ مِن أصلِك. حتّى المَوت لا يعفي ذِكراكَ مِن أصلِك.
ملفِتٌ كيفَ يُذَيِّلُ رَجُلُ الدّينِ عندَ المسيحيين رسائِلَه. يكتبُ في أسفَلِ الرّسالَةِ وقبلَ تَدوينِ اسمِه كلِمَة ملفِتَة في دلالاتِها: ” الحَقير “. يستَبِقُ الكاهِنُ أو الأسقفُ أو الحَبرُ الأعظَم احتِمالَ ربطِهِ بِأصلِه العائِلي. حبلُ صرِّتِه الرّوحيَّة مربوطٌ برَحِمٍ رَحمنٍ رَحيم. شجرَة عائلَتِه تَصِل ” عند رَبّنا ” عكس المَثَل الشائِع. ما أن تصبِحَ نُذورُهُ مؤبَّدَةً حتّى ينسى الناسُ بيتَ إهلِه وصنعَةَ أبيه وقصَّةَ أمِّهِ حينَ كانَت عَزباء. الكاهِنُ أوَّلُ هَزيمَة للنميمَة. يتحوَّلُ إلى حقيرٍ أمامَ الله فيقضي بشكلٍ مدَمِّرٍ عَلى كل الغَرائِز البشِعَة التي نسجناها في المجتَمَع. مِن هنا أغلَبُ الظنّ دعوة الكَنيسَة لِشَعبِها التماهي مَع الكَهنوت.
نحنُ مَدعوكونَ بالغيرَة. الغيرَةُ جِنحَةُ غَريزيَّة. عَوِّدْ فَمَ الطّفلِ عَلى صدرِ أمِّهِ ثمَّ أعطِ صدرَهَا لأي طفلٍ آخَر وراقِب. جاك السفّاح مختَبئٌ داخِلَ كلِّ طِفلٍ حتّى قبلَ بروزِ أسنانِه الأَولى في نيرَتَيهِ العُليا والسُّفلَى. الأهلُ يحذرونَ دائِماً مِن مغبَّةِ أي معامَلَةٍ تَفضيليةٍ لأخ ٍعلى حسابِ أخيه أو أختِه. في المدرسَة كنّا نوضَع أمام تَعويذَتَين بيتِيَّتَين لا ثالِثَ لهما: أضربهُ أو إشتَكِي عليه. كانَت الأولَى تكلِّفُنا القَصاص. الثانيَة كاَنت ” تمسَحُ الأرضَ فينا ” لِسَنوات. ليسَ هناكَ في الحَياة حدّاً أوسطَ بينَ القَوي والضّعيف. تماماَ كما في السياسَة. مَقولَة أنَّ لبنان قوي في ضعفِه تصلَحُ لنذور رَهبانيَّة. لا تصلَحُ لِقيادَة بَلَد. القوّةُ المبارَكَةُ بالضّعف تَصنَعُ قدّيسين لكنّها لا تَصنَعُ رِجال دَولَة.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.