تكلمَ اللبنانيُّ وإن صمت! ففي صمتِهِ استنكارٌ، وفي اعتكافه قهرٌ، وبالرغم من كل شيء، لديه إدراكٌ وقدرةٌ على التقييم. في صمت اللبنانيِّ شعورٌ وإنصاتٌ للوجود، ترقبٌ، رجاءٌ، أملٌ وأمنيات.
في بقاعِ علمي اللبنانيّ، تلوثٌ سياسيٌ إلتهمَ البياضَ الذي يلفُّ أرزته، وتناثر في كلِّ أرجائهِ حتى تخطّى الخطَّينِ الأحمرَيْن وكل الخطوط الحمر. مُخلفاتٌ بفعلِها جفَّ الفمُ وجفَّ العقلُ وضاعَ الكلامُ حتى أمسى إصاخةً الى ما يصعب إدراكه، فصمتَ اللبنانيّْ…
منذُ أكثرِ من ثلاثةِ أعوامٍ ولبنانُ يعاني من أزمةٍ إقتصاديةٍ تعتبر الأكثر حدّةً
في تاريخه الحديث. بدأت منذ عام ٢٠١٩، وتفاقمت بسبب انتشار وباء الكوفيد، إنفجار العصر في أغسطس ٢٠٢٠، مقاطعة بعض الدول العربية للبنان، وحتما وأولاً تقاعس السلطتين السياسية والنقدية، اللتين لم تستوعبا بعد خطورة الوضع، بالإضافة الى عجز مصرف لبنان عن السيطرة على انهيار الليرة اللبنانية.
طوال الفترة التي تلت ١٧ تشرين الأول، والكلّ يتساءل عن الأسباب التي تضع المواطنين عامّة في حالة ثباتٍ من دون الإتيان على أيّة ردّةِ فعلٍ إزاء هذا الوضع الإقتصادي القاهر.
فما سرّ تأقلم اللبناني رغم انهيار القدرة الشرائية وقيمة الرواتب والأجور؟
لماذا لا يثور هذا الحيّ الميِّت؟
نسأل جميعنا شوارع لبنان، أين هي الإحتجاجات السلمية المتحضِّرة؟ أين النساء والرجال؟ أين الأولاد على الأكتاف؟
وما أبلغ الشوارع لمّا جئنا نسألها، أين هي تلك الأسماء التي ستصنعُ التاريخ؟ فتأتي الإجابة في صدى بيوتِ قصيدةِ متنبٍّ:
لا تسألِ الدارَ عمّن كان يسكُنُها
البابُ يخبر أنَّ القومَ قد رحلوا…
شعبٌ مقهورٌ يعاتب من خانوه وارتحلوا، يصرُخُ رفقاً بي واحسبوا أنه لم يعد في الدارِ أصحابُ…
في البحث العلمي عن أسباب التأقلم والتكيُّف اللبناني وحالة الصمت هذه، نجد أنّ هناك قاسميْن مشتركيْن بين لبنان والدول التي تعرّض إقتصادُها لأزماتٍ حادّة وهو طبعاً الفساد المتغلغل في المنظومة السياسية الحاكمة، وأيضاً نوْعٌ من الحِصار والضغط الخارجي الذي تمارسه الدول الكبرى عليها بهدف الوصول الى هدفٍ معيّن. ويقول”خسيوس فاريا” أحد المحلّلين السياسيين والخبراء في الإقتصاد والشؤون المالية والتنمية الإقتصادية أنَّ هكذا أوضاع يترتّب عليها تحدّيات كبيرة وبالتالي خيارات محدودة أو شبه معدومة، لا سيّما جرّاء تخاذل الحكّام عن إيجاد أو طرح خطط إصلاحية، وإذا وُجِدَت، إنعدام تنفيذها لأنّها لا تناسب مصالح المنظومة الحاكمة ومكاسبها وتفضح فسادها. أما المواطن فهو يدرك هذا الأمر وأصبح على يقين أنّه لا جدوى من المناجاة. وما يُعزِّز ذلك في لبنان على وجه الخصوص، إستمرار إنقسام اللبنانيين في ولائهم للزعيم رغم غياب أيّ قائدٍ وطنيّ جامع يمتاز حصراً بولائه للوطن والإلتزام برسم خططٍ فعليّة تنتشل البلد من هذا المستنقع لبلوغ شاطئ السلام والإزدهار. هذا هو العامل الأساسي الذي جعل اللبناني يفقد الأمل والثقة بوجود أذُنٍ مصغية لمطالبهم وانسانيةٍ شاعِرةٍ بأوضاعهم المتردِّية.
كما وانّه لا يمكن أن ينسى المحتجّون كيف كانت تجربة الشارع غير مشجعة وكيف قوبلت تحرُّكاتهم بالعنف والقمع والرصاص الحيّ أحياناً. لذلك تمنّعت شريحة كبيرة تلقائياً من النزول الى الشارع ورفع الصوت بهدف الحفاظ على الصحة الجسدية أو بسبب الخوف، بالإضافة الى فقدان الثقة بالجمعيات والمجموعات التي افترشت الشارع واتّضح بانّ لديها أجندات لا تخدم بالضرورة الصالح العام.
وهناك أيضاً عاملٌ أساسي وهو أنّ الوضع السائد قد شكّل نوعاً من المؤثِّرات الإلهائية، فانشغل المواطن بسعر الصيرفة وخسارة الأرصدة المصرفية وانقطاع الإنترنت والأدوية وبعض المواد الغذائية من السوق المحلّي، والقطاع التعليمي الذي أطلق الأنين الأخير، والغلاء الفاحش والعجز عن تأمين لقمة العيش، والسعي للحفاظ على الوظيفة في ظل النكسة التي تتعرّض لها المؤسسات والشركات…وتطول اللائحة التي تشكِّل مجتمعة الحاجات الخمس الأساسية للإنسان وتتلخّص حسب هرم ماسلو الشهير بما يلي: الأمان، المأكل، المشرب، المأوى، وتحقيق الذات. وتقول نظرية لأبراهام ماسلو ، عالم النفس الأكثر إلهاماً في نظريات الشخصية:
أن الإنسان عندما يعاني من نقصٍ في إحدى تلك الحاجات الفسيولوجية والإجتماعية، وخاصة نقص الدواء وانقطاع الكهرباء، ينصرف عن فعل أي شيء آخر ويسعى أن يشبعها ويتوقّف عن البحث عن الإحتياجات الأعلى وخاصةً في ظلِّ انعدام الأمن، السلامة العامة والأمان وانتشار الجرائم والجنايات والإعتداءات.
أما على الصعيد النفسي، أُصيب اللبناني باليأس والإكتئاب، وقد شهدنا على عدّة محاولات إنتحار في الآونة الأخيرة، فاليأس يُولِّد رغبةً طوعيةً بالإستسلام والخنوع، والشعور الدائم بالقلق والعجز، إذ أدرك اللبناني أن المناجاة لن تُجدي نفعاً، وأصبح سيِّد الموقف فقدان الأمل بتحسين الأوضاع، والإعتقاد الراسخ أن الخطط الإصلاحية بعيدة التنفيذ ومستحيلة المنال. وبما أنّ اللبناني يتمّع بالعنفوان وبشيءٍ من التغطرُس، إحتذى الإخفاء والإنكار التام حفاظاً على ما تبقّى من كبرياء وخصوصية، وبنتيجة ذلك إختارعدم التفاعل أو إبداء أيّة ردود فعلٍ إزاء مستقبلٍ قاتم ومجهول، وأصبح همّه الوحيد الحفاظ على مصدر الرزق والتعايش مع الإنكماش الإقتصادي الذي بلغ حوالي ٢٬٦% وأثّر على أكثر من مليونيّ لبناني يحتسبون كمية الطعام التي يأكلونها يومياً حسب تقريرومؤشر البنك الدولي. وبالرغم من معدل التضخُّم البالغ نحو ١٤٣% لا تزال هناك فئات لم تتأثّر بالكامل، ولم تتضرّر بشكل كبير، لذلك لا تشعر بسخطٍ عارم بل بنوع من الإكتفاء. فهناك شريحة تتقاضى الأجور بالعملة الأجنبية، وهناك القطاع العام الذي ما زال يبني آمالاً تتعلق بحبال الرعاية الصحية والتعليم العام، وهناك الموظفين الذين تتعلق أعمالهم بالمسؤولين والدوائر الحكومية، وبالإضافة الى القسم الذي استطاعَ المحافظة على نظام عيش ومستوى إجتماعي مقبول بفضل مساعدات تؤمنها المنظمات الإنسانية المحلية أو الأجنبية، وبشكلٍ كبير بفضل تحويلات المغتربين التي تشكل شريان الحياة لحوالي ٢٥٠ ألف أسرة، وقد قدّرها البنك الدولي بما يقارب ال ٦٬٨ مليار دولار أميركي، وهذا ليس بالأمر الجيِّد لأن دخول العملة الأجنبية الى لبنان يتمّ دون المرور بالنظام المصرفي وذلك يعزّز الضربة التي تلقّاها هذا القطاع، مع العلم أنّه لا يمكن للبلاد الخروج من هذه الأزمة إلّا من خلال هذا النظام الذي كان يشتهر به.
لبنان ليس فنزويلّا والصومال، كذلك لم يبلغ مرحلة الإنهيار التام بعد، فانخراط اللبناني بالمضاربات والسوق السوداء دليل على وجود الدولار بين أيديهم وهذا ما يزال يحرِّك العجلة الإقتصادية نوعاً ما.
يقول مقرّر الأمم المتّحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أن لبنان ليس دولة منهارةً بعد، ولكنّه على شفير الإنهيار وحكومته تخذل شعبها.
فماذا ينتظرنا عندما نبلغ النهاية؟
يُحذِّر خبراء الإقتصاد أنّ نتائج الإرتطام الكامل لا يُمكن تجاهلها لأنّها لن تمسّ من يعاني من ضائقة مالية فقط بل ستؤثِّر على أسلوب حياة بكامله لأن الحاجات الأساسية ستُفقد، وسيندرج تحت هذه النتائج أيضاً إنهيار القطاع المصرفي، الإستشفائي، التربوي، والإدارات التابعة للقطاعات الرسمية بالإضافة الى ارتفاع هائل لمعدّل البطالة والإنتحار والجريمة.
تستولي على اللبناني مؤثرات إلهائية، عوامل نفسية، انعدام الثقة بالزعيم، وفقدان أي بصيص للأمل. في المقابل يحظى جزئياً بالدعم الإغترابي، والبعض بأجرٍ أجنبي، فهل يستمرّ بتجاهل الوضع الصعب والجرف الذي يقودُهُ الى الحضيض؟
الى متى المضي قُدُماً بما توفّر أو لا يتوفّر؟ وما النفع أن تنبت الأصوات من صمت السكون؟
إنّ الله قد نهانا عن الرجاء بالناس أجمعين وأمر بالرجاء به وحده، لذلك لا جدوى من الشكوى من الأيام فهي ليس لها بديل، واللجوء الى الله فهو الوكيل، والوحيد القادر على تحويل الخوف والقلق من الحياة القادمة الى راحة واطمئنان وشعورٍ جميل.
كارمن جرجي
٢٢ أيلول ٢٠٢٣
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.