كَم حائِطاً أبكَى حائطُ المَبكَى؟
بِقَلَم روني الفا
جريدة النهار الإثنين ١٧ أيار ٢٠٢١
ماذا لَو عادَ المَسيح إلى العالَم ؟ المَجيءُ الثاني على ما جاءَ في مِئاتِ المَقاطِع في العَهدين القَديم والجَديد. سيكونُ العالَمُ بِما ومَن فيهِ موطِئًا لجَبَروتِه ومكانًا لِملكوتِ الله كما تمّت الإشارَة إليه في الكِتابِ المقدّس. جَميلٌ أن يَحكمَ الله العالَم بعدَ أن أمعَنَ فيهِ الأباطِرَةُ والطغاةُ والملوكُ والأمراءُ سَحلاً ودَعساً باسمِ الله وملائكتِه. أن يأتي المسيحُ ليتسلَّمَ مَقاليدَ الحكمِ التاريخي على التاريخ فيُدينَ الأشقياء ويبارِكَ الأتقياء على ما جاءَ في الكتب. هذا الذي مملكتُه ليسَت مِن هذا العالَم يَعودُ ليُرسي قَواعِدَ مملكَتِه في هذا العالَم. سَنَكونُ حينَها أمامَ قيامَةٍ جديدَة. الأولَى حدَثَتْ منذُ ألفَين وإحدى وعشَرينَ عاماً والثانيَة مرتقَبَة في رجاءِ هذه العجالَة. قيامَةٌ جديدَةٌ بالطّبع مَعطوفَة عَلى أبديَّةٍ جديدةٍ نعيشُها نحنُ أهلُ الفَناء في دارٍ ستستَحيلُ داراً للبَقاء.
لا إشارات تفيدُ أينَ ستحطُّ محبَّةُ المَسيح. الجغرافيَةُ الإلهيَّةُ خارِجَ مَنظومَةِ الخَرائِط والإحداثيات. بإمِكانِ الله أن يَتواجدَ في كلِّ الأمكنِة في وقتٍ واحِد. نحنُ نتأمّلُ أن يحطَّ رِحالَه بالقرب مِن أوجاعِنا وصلواتِنا ورجائِنا معتَقِدينَ أنه سبحانَه يندرِجُ في التسلسلِ الزَمَني والحضورِ المَكاني المَحدود. يستَطيعُ اللهُ أن يَكونَ حيثُ يَكُونُ كلُّ واحِدٍ مِنّا وأن يَبقَى إلهاً واحِداً ضابِطاً للكلّ.
لا بأسَ أن نَرجو عَودَةَ المَسيح إلى فِلسطين ولا هرطَقَة في ذلك طالَما أنَّ الرّجاءَ يصدرُ عَن وجَعٍ تاريخي وجراحٍ عميقَةٍ لَم تَندَمِل. سيكونُ المَسيحُ إلى جانبِ المَظلومين والمضطَهَدين. لَن يَنسى المَسيحُ استِلالَ سَوطِه. حبكَهُ في مجيئِه الأوّل مِن حِبالٍ وأخرَجَ الغَنمَ والماعِز مِن بيتِ الله الذي حوّلَهُ الصّيارِفَة إلى بيتِ لصوص.
حبّذا لَو يعودُ برِفقَةِ الأنبياء إبراهيم وإسماعيل ويَعقوب عليهم السّلام. في فلسطين تسري مَقولَة ” أبناءِ العَمّ ” الذينَ اختَلَفوا على التّركَة. تَصوير القضيَّة الفلسطينيَّة وكأنها خلافٌ عَلى ميراث ما يرسّخُ الحقَّ المقدّسَ لليَهود في فلسطين. ” لِنسْلِكَ أعطي هذه الأرض من نهرِ مصرَ إلى النهرِ الكبير، نهر الفرات “. لا جِدال. إنما الوَعدُ قُطِعَ للنّسلِ ضِمناً. الوعدُ الإلهي شملَ إسماعيل وإسحق ويعقوب وهم ذريّة إبراهيم. أفلا يَتساوَى في حقّ هذه الأرض جدّ اليَهود وجدّ العرب؟
حبّذا لَو تبدأُ محاكَمَةُ الإنسانيَّة مِن الجلجلَة. حيثُ صُلِبَ المَسيح يُصلَبُ مَن صَلَبوه. ليسَ انحِرافاً لاهوتيّاً توقّعُ غضبِ الله عندَ مجيئِه. حكمَتهُ أدخَلَت ” يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُم، لأَنَّهُم لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُون» قبل ان يقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ويقْتَرِعوا عَلَيه . كانَ ذلكَ ضمنَ خطّته الأزليَّةِ الأبدّيّة. الله لا يجرّب مستَحضراً في التاريخ. اللهُ هوَ التاريخ وكلُّ مستَحضرٍ فيهِ مكتَنَهٌ منذُ بدءِ الأزمِنَة. لا بأسَ أن نتخيلَهُ كما في سِفْرِ رؤيَا يوحَنّا ممتَطِياً فَرساً أبيَض. عَيناهُ كَلَهيبِ نارٍ وآثارُ الدّماءِ باديَةٌ عَلى ثَوبِه الذي اقتسموهُ وفي فمِهِ سيفٌ حادّ ” ليضرِبَ بِه الأممَ ويحكمَهم بِعَصا مِن حديد “. سوطهُ الذي كانَ مِن حِبالٍ يتحوّلُ عَصا مِن حديد. الله يستعمِلُ أدَواتَ التاريخ ليحكمَ التاريخ.
توفيَّ منذُ شهرَين تَقريباً مُريد البَرغوثي أحَد شعراء وروائِيي فِلسطين الذي ذاعَ صيتُ عبارَتِه الشّهيرَة ، كَتَبَها بعدَ طَرْدِهِ مِن رامَ لله لثلاثينَ سَنَة: «نجحتُ في الحصولِ على شهادةِ تَخرُّجي وفشلتُ في العثور على حائطٍ أعلِّقُ عليه شهادتي». حائِطُ مَبكَى يمارِسُ اليهودُ طقوسَ النُّواحِ والبكاءِ بالتفرّسِ في تشققاتِه الحجريَّة مستَذكرينَ أطلالَ هيكَل سليمان. حائطُ مَبكَى أبكَى كلَّ حيطانِ فِلسطين. دمّرَها وفجَّرَها وخَلَعَها وبقرَ بطونَ مِن يسكنُ خَلفَها. سَحَلَ الأطفالَ بالدبابات وذبَحَ النّساءَ بالفؤوس وقتلَ الشّيوخَ بالبنادِق واعتَقل الشّبابَ ولَم يرفَّ له جِفنٌ فَسبقَ واشتَكى الضحيَة ليبيعَ خرافَةَ التضامن مَع الشّعب الإسرائيلي المَقهور.
قبرُ مُريد البرغوثي في ضَواحي لندن. شاهِدُ قبرِه يشعرُ بالبَرد. لَم يتسنَّ لَه المَوتَ في بلدِه. مثلُه مِثلُ ملايينِ المضطَهَدين الراقدين على رجاء القيامة ينتَظِرُ المَجيءَ الثاني آخِر مَعاقِلِ الرّجاء في عالَمٍ ضاعَت بوصَلتُهُ وينتظِرُ بعدَ سلسلةِ الخَيباتِ الوجوديَّةِ مَسيحًا يرفَعُ يَدَهُ ليَدينَ الأحياء والأموات.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.