تربوياّ ونظريّا، تحدد المناهج ومضمانيها بحسب رؤية السلطة التربوية في الدولة وغاياتها المنشودة لتشكيل المواطن
التي تريد . دون أن ننسى أنّ المتعلم هومواطن الغد . تاريخيّّا ، وضعت الدولة التركيّة العثمانية أول نظامٍ تعليميّ في لبنان ،ومن بعدها الدولة الفرنسية أثناء مرحلة الانتداب. ولم تتوحد غايات المناهج الرسمية قبل الحرب الأهلية وكانت نتيجة هذه المناهج غير الوطنية تأجج الحرب الأهلية .
ومن هذا المنطلق اتفق رواد التربية في السلطة في تسعينات القرن الماضي ، اعتماد غايات الدستور اللبناني كحد فاصل للتدهور التربوي والمجتمعي بعد الحرب . واعتبر الدستور وغاياته العامة الركيزة الاساس لبناء المنهج الجديد خصوصا بعد اتفّاق الطائف السياسي ورضى جميع اللبنانيين . فتم سّك القيّمون بتحديد المواصفات الجامعة للمواطن اللبنانيّ . ارتكزوا على المبادىء الاجتماعيّة والقيم الموروثة والعادات اللبنانيّة، واحترام الحريّات في التعليم والتعبير والعبادة، كما العيش المُشترَك والانصهار الوطني بين تعدديّّة الطوائف و ركزوا على أهمية السيادة والوحدة وبناء دولة القانون والمؤسسات .
إنَّ اتفاق الطائف الذي وُضع بتاريخ 22/10/1989 ليضع حدًّا للنزاعات المسلحَّة قد أصبح دستور البلاد، بعد إقراره في مجلس النواب بتاريخ 5/11/1989، وكانت الأهميَّة المرجوَّة منه هي إصلاح ما دمَّرته الحرب، وخصو صا في الشأن التربوي الذي يعنينا. ففي مجال التربية على المواطنيَّة نصَّ الاتفاق على مبادئ عامَّة منها:
• لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامَّة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقدَ، وعلى العدالة الاجتماعيََّّة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل.
• أرض لبنان واحدة لكّل اللبنّانيين )…( فلا فرْزٌ للشعب على أساس أي انتماء كان.
• لا شرعية لأي سلطة تنُاقض ميثاق العيش المشترك.
• إلغاء الطائفيَّة السياسيَّة هدفٌ وطني يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطَّة مرحلية، وعلى مجلس النواب اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيقه، وتشكيل هيئة وطنية )…( مهمَّتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفيَّة، وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء.
و في العام1994 تم وضع خطّ ة للاصلاح التربوي في لبنان . حيث صاغت لجنة المركز ّ التربوي ّ هذه الخطة لتطوير قطاع التعليم، وشاركتها مختلف المجموعات الطائفية رأيها ، وكان للوزراء ومستشاروهم رأيا أيضا ، إذ أنشأ لجنة من موظّ فين يمثلون مختلف المجموعات الطائفية .
وفي 17آب/أغسطس1994.حـددت الخطة أهدافا طموحة ترمي إلى : تعزيز الانتماء والانصهار الوطنيْيْن والانفتاح الروحيّ والثقافيّ، وذلك بإعادة النظر في المناهج وتطويرها. و تزويد النشء الجديد بالمعارف والخبرات والمهارات اللازمة.
الوصول إلى تحقيق التوازن بين التعليم العامّ الأكاديميّ والتعليم المهنيّ وتوثيق صلتهما بالتعليم العالي. تحقيق الملاءمة والتكامل بين التربية والتعليم من جهة، وحاجاتِّ المجتمع وسوق العمل اللبنانيّ والعربيّ من جهة ثانية.ومواكبة التقدمّ العلميّ والتطوّر التكنولوجيّ، وتعزيز التفاعل مع الثقافات العالميّة.
أما في العام 1995 أق رّت هيكلية جديدة للتعليم : طمحت الى تطوير بنية التعليم ووضع مناهج حديثة ، وقد شكّ لت الاطار العام الذي حدد المسارات والفروع وعزز الربط بين التعليم ما قبل الجامعي والتعليم العالي ، والى تحديد التوازن بين التعليم المهني والتعليم العام. واخذت هذه الخطة بعين الاعتبار متطلبات سوق العمل و حاجات المجتمع اللبناني و تطلعاته. اذ يخضع المتعلم في نهاية التعليم النظامي و مدته 9 سنوات الى امتحان رسمي يخوّ له الانتقال الى المرحلة الثانوية أو الى مسارات التعليم المهني و التقني . و في نهاية التعليم الثانوي اي بعد ثلاث سنوات يخضع التلميذ الى امتحان آخر ليحصل بعدها على الشهادة الثانوية و يستكمل اختصاصه الجامع ي .
وفي العام 1997 تبيّّن بعد عملية التطبيق التي دامت 3 سنوات تقريبا ، أنّ مضمون المناهج لم يساهم في تعزيز حالة الاندماج الاجتماعي عند المتعلمين اللبنانيين ، بل على العكس من ذلك ساهمت هذه الكتب في تأجيج النزاع الطائفي المناطقي بشكل عميق، الأمر الذي أدى الى التباعد في المواقف والاتجاهات الوطنية.
كل ذلك فرض الحاجة الملحة لاصدار مناهج جديدة تواكب العصر والتطورات، وتساهم في تعزيز الاندماج الاجتماعي، والشعور بالانتماء والمواطنية في نفوس الاجيال الصاعدة، وترميم آثار الحرب التي تملكت الجسم التعليمي والاداري والاهل وانعكست سلبا على المتعلم .
أدرك ، عندها مجلس الوزراء اللبناني هذه الخطورة وأصدر مرسوم رقم 10227 في 8 أيار 1997 يقضي بضرورة وضع خطة نهوض تربوية شاملة لإقرار مناهج تعليم عام جديدة، لكل مراحل التعليم ما قبل الجامعي بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين. و بالتالي تعزيز رقابة الدَّولة على المدارس الخاصَّة وعلى الكتاب المدرسي، وإعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزِّّز الانتماء والانصهار الوطنيين والانفتاح الروحي والثقافي، وتوحيد الكتاب في مادَّتيَ التاريخ والتربية الوطنيََّّة .
إلا أن الظروف السياسية والانقسام الطائفي ظلت أقوى من الدَّ ولة، حتى وجدت الأخيرة نفسها غير قادرة على طرْح كتاب موحَّد للتاريخ، يكون مقبو لا ومُعتمَد ا من المدارس.
فبعد سنوات من الدَّرس )بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني( لم تصدر كُتبُ التاريخ الموحدة لمرحلة التعليم الأساسي وظلّ الخلاف المزمن بين اللبنانيين على التاريخ وكتابته وتدريسه، وهو خلاف يدور حول رؤيتيَن للكيان والوطن. ففيما “مفهوم الوطن في كُتبُ المدارس المسيحية مستق لا، والوطنيَّة هي الدِّّفاع عن الاستقلال والولاء له، هو في كُتبُ المدارس الإسلامية عربي الطابع وجزء من محيطه العربي الأوسع. ” وعليه فقد كان لكل من الكتابَين رؤيتهما المتفرِّّدة للاستقلال والكيان، و ظلت المرحلة الاساسية في التعليم الرسمي حتى اليوم دون كتاب تاريخ و بقيت هذه الاجيال جاهلة لتاريخها و هويتها و جذورها.
وركّ ز المنهج عندها على مضمون كتاب التربية الوطنية والتنشئة الاجتماعية. واعتمد هذا الكتاب كمنتج أوّلي لتسويق القيم الوطنية والاجتماعية في المدرسة . اعتمد منذ السنة الاولى الاساسية من التعليم الاساسي وحتى المرحلة الثانوية . ومن المؤكد أنه اضاف نوعا من التغيير في سلوك المتعلم ، الذي يطبقه أحيانا في صفه مع رفاقه . إلا انه بقي غير كاف خصوصا ان عملية تسويق مضمونه كانت مج زةأ على حصة تدريس واحدة أسبوعيا ، وغالبا ما كانت تنتتهي بتسجيل المادة نظريا و حفظها للاسبوع الثاني بدل ان يحول الدرس الى درس تفاعلي إجتماعي ووطني .
أعتبر أن مشكلة التلقين لمادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية هي العقبة الاولى المانعة من تكوين السلوك الاجتماعي الطويل الامد. فلا يمكن تكوين سلوك فعلي وممارسته في الحياة العامة عن طريق نقل المعارف والمهارات وفق الأسلوب التقليدي، أي التلقين . والمشكلة الثانية هي في موضوع الملائمة بين مضمون الكتاب النموذجي الذي يطابق القوانين والدستور ،والواقع الفوضوي للمجتمع الحالي وممارساته العشوائ
لقد ذهب أفلاطون في كتابه “الجمهورية” إلى “اعتبار التعليم واحد ا من أهمِّّ أعمدة الدَّولة الفاضلة، فهذه الأخيرة لا قيام لها بغير مواطنين صالحين، ولا سبيل إلى خلْق المواطن الصالح إلَّا من خلال نظام تربوي تعليمي مميَّ ز. ” وكرَّس أرسطو الفصل الأخير من “سفر السياسة” للحديث عن التربية، وجاء فيه “أنَّ من ضمن واجبات الحاكم أن يهتم بأمر تربية النشء .” وفي العصر الحديث، راح مونتسكيو)Montesquieu( يعزو انتصار الرومان إلى روحهم البطوليَّة التي عزَّزتها عقيدتهم، وحيث ذهبت عنهم هذه الروح في ركاب انشغالهم بالغنائم وتأثرهم بعقائد الشعوب التي خضعت لهم، أفلُ نجم الإمبراطورية الرومانية. كما نبََّّه روسو قبل الثورة الفرنسية إلى تأثير الثقافة والتنشئة الوطنيََّّة على نظام الحكم وسياسته. نلخص من كل ما سبق: أن التربية ليست معزولة عن السياسة وعن النظام الطائفي السائد في لبنان . وعملية التسويق للقيم الوطنية الواحدة لا تكفي أن تكون فقط عبر مناهج جديدة تحمل مضامين المواطنة وال قيم الوطنية الواحدة ، لان النظام الطائفي يمنع اللبناني التربوي من تدوين الذاكرة الجماعية الإيجابية في مضمون المنهج. والخلاف ليس فقط على مضمون كتاب التاريخ ، وعلى عملية اختيار النصوص في كتب القراءة ، أو على عملية اعداد المعلم المواطن- الذي بات شبه منفرد في هذه الظروف السيئة التي نعيشها- بل هو فعليا خلافا على ذاكرة جماعية وحقوق طوائف وإختلاف بالوقائع وسردها . هذا ما يعيق بناء مناهج متكاملة وطنية موحدة ، تسوق لقيم المواطنة والهوية اللبنانية الواحدة .
إن غياب الاهتمام الرسمي بتسويق القيم الوطنية اليوم من خلال المواد التعليمية في المدرسة الرسمية و في مناهج الحلقة الاولى و تحديدا مواد اللغات التي تدرس بحدود 8 ساعات في الاسبوع ، والتي تساعد من خلال تنويع الانشطة وتغيير الوسائل على تثبيت هذه القيم المراد تحقيقها ، و تكوين المتعلم المواطن ، كان واضحا. ولا يحمل وزْ ر غيابه وحده النظام التربوي، كما لا يحمل وزْر الصعوبات الناتجة عن بعض طائفيَّة التعليم، وغموض المناهج واختلاف النظرة إلى التاريخ، وإلى مفهوم تدريس التربية على المواطنيََّّة و مضامينها ، فهذه كلها مؤشرات اعاقت فعليا عملية الرقي في التربية ، و تحديدا في المدرسة الرسمية و في صفوف الحلقة الاولى اي مرحلة تكوين شخصية الابناء المواطنين .
أما الاقتراحات التي طُرحت في محاور التعددُّية والتربية الدينية والأخلاقية، والتعددُّية وإعداد المعلمين، لا يمكن أن تعطي ثمارها ما لم يقتنع بها المعنيون على المستويين التربوي والسياسي. وشعار “وبالتربية نبني م عا” يلقي على عاتق الجميع مسؤوليََّّة التفكير والبحث عن الأساليب والوسائل الناجعة التي يمكن أن تساعد في بناء المواطن على أسُسُ تربويَّة وعلميَّة مركَّبة، تأخذ بالاعتبار الواقع اللبناني في كلِّّ مشكلاته وتعقيداته، وعلى الأخص تلك المتأتية من التعددُّية والتنوُّع وما خلَّفته من انعكاسات اجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة، كادت تقضي على كلّ مقوِّّماته.
والحل لا يكون الا ببناء دولة مدنية مكمّ لة ومرتبطة بعملية تسويق القيم الوطنية في المدرسة الرسمية ، وداعمة للمنهج الوطني الرسمي . فيحكمها الدستور وقوانينه ، وهذه المعارف لا يتم اكتسابها في النظم التعليمية وحدها بل أي ضا في إطار التعليم المستمر الذي تضطلع به مؤسَّسات المجتمع المدني ، والتي تسعى إلى أن يسترشد بها الفرد. إذ تساعد عملية الربط هذه على نشر ثقافة الوعي لحقوق الإنسان، وما تعنيه من تساوٍ في الكرامة بين الجميع، واحترام الآخرين وتقبّلهم رغم الاختلاف . فتنشر بإيجابية ثقافة التسامح الديني والطائفي والعرقي والثقافي، و تجعل عملية التسويق للقيم الانسانية و المدنية و الوطنية في الدرجة الاولى في المناهج و في الممارسات الحياتية , كما تكرس أهمية المبادرة الشخصية ، وتحمّ ل المسؤولية من أولويات خطواتها . وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة الاميريكية التي جعلت القانون هو الحكم على أراضيها بالرغم من الاختلاف الكبير بين شعبها ، وتحولت الى قوة عظمى بعد استقلالها وتسويق قيم الدولة المدنية في مناهجها ومجتمعها.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.