كتب الأستاذ روني ألفا
لا أعرِفُ الصّحافي الذي أدخَل عَلى قاموسِه المِهني كلمَة ” حمرَنَة “. تسنّى لي بالصّدفَة رؤيَة صورَتِه عَلى إحدَى الشاشات. تَصنيفُه في سلَّم الإخِتصاص لَم يَكُن صَعباً عليّ. صَحافي إستِقصائي. هناك لَغط كبير في لبنان حولَ المصطَلَح. الإستقصاء عَمَل نَبيل عِندَما تتوفّر فيه ثلاث خَصائِص. الأولَى أن يهتَمّ الصّحافي بهَدَف نَبيل كَشفُ متاهاِتِه وأسرارِه يهمّ الرأي العام ويَحمي قيَم المجتَمَع. الثانيَة ألا يَكون الإسِتقصاء وسيلَة إستِرزاق تموّله جَهَة للتشفّي عَلى جِهَة. الثالِثَة أن يبني الصّحافي الإستِقصائي الخلاصَة عَلى مَعلومَة أي ألا يتحوّلَ إلى أغاتا كريستي وألا ينتَحِل صِفَة كاتِب روايات بوليسيَّة. المَذكور أخفَقَ في تَحقيق الخصائِص الثَلاث. إسمٌ إضافي يُدرَج للأسف في خانَة الخِفَّة والصّلافَة ووقاحَة التّعبير. في كلّ ذلك أزمَة مِصداقيَّة.
بالطّبع يُمكِن أن يُقال أنَّ الإهِتمام بِقضيَّة مثل إنفِجار المرفأ قضيَّة رأي عام. بالطّبع. إنّما مقارَبتها بالخِفَّة وتَوظيف التّهمَة في افِتعال إثارَة جَماهيريَّة يسقِطُ عن القضيَّة صِفَة القضيَّة العامَّة ويُدرِجُها في خانَة الإهانَة. حتّى لا يتسرَّع البَعض في الظنّ أننا نقصد فقط إهانَة المؤسسة العسكريَّة. ليسَ بَعد. نحنُ نَعني إهانَة الرّأي العام أوّلاً. إهانَة الشّهداء ثانياً. إهانَة القَضاء ثالِثاً الذي أظهَرَه الصّحافي وكانه لزوم ما لا يلزَم في القضيَّة. مِن هذا المَنظور يَبدو لَنا استِعمال قضية عامَّة أشبه بعَمليَّة خَطف. خَطف قضيَّة نَبيلَة عنوةً بسلاح التّزوير. الإسفاف في التّعبير يُضاف عَلى كلّ هذا. بالطّبع يعبِّر عَن أخلاق مَن أطلَقَه.
الإستِقصاء في الصّحافَة ليسَ وسيلَة إستِرزاق. برزَت في الآوِنَة الأخيرَة وجوه صحفيَّة تسبِق الجَميع في الكَشف عَن المَستور. في جعبَتِها مَعلومات في غايَة الدِقَّة لا يمكِن أن تُنسَج مِن خيالِ مطلقِيها. مَعلومات يكون فيها الصّحافي في غالِب الأحيان وللأسَف أداة أو في أفضَل الأحوال ساعي بَريد. في الولايات المتِّحَدة أماطَ الصّحافيان المخَضرَمان بوب وودوُرثْ وكارل برنشتاين اللِّثام عَن أكبَر فَضيحَة في تاريخ الولايات المتّحدة هي فَضيحَة ووترغايت وأدَّت في أوائِل السّبعينات إلى إستِقالَة ريشارد نِكسون ومحاكَمَة أعضاء في فريقِه الرئاسي. كانَت تَقارير هذين الصحفيين موثَّقَة وعَميقَة. الأهمّ أنها لَم تتضمّن سُباباً أو تَحقيراً أو إهانَة. ” الحَمرَنَة ” كلمَة خارِج سياق الصّحافَة الإستقصائيَّة. استِعمالُها يعكس فقَط إفراطاً في الإعتِداد بالنّفس وأذيّة مجّانيَّة إن لَم نَقُل مَطلوبَة ومَرغوبَة مِن مَصدَرٍ ما أو مَرجَعٍ ما لِتصفِيَة حِساب ما مَع المؤسسة العسكريَّة.
الصحافَة الإستقصائيَّة مدعوّة إلى كَشفِ المستور. إلى تَقديم مَعلومَة. إلى الإعلان عَن وَثيقَة. عَن قصاصَة وَرَق. عَن مستَنَد. مدعوَّة إلى استِعمال المَصادِر. لا تستقَيم الصّحافَة الإستقصائيّة عندَما تستَعمِلها المَصادِر.
الفَضيحَة في الصّحافَة الإستقصائيَّة هيَ أرقَى مَراتِب الـتّحقيق الصّحفي . تشويه السّمعَة والنيل مِن هيبَة مؤسسة يَكاد يستَشهِد فيها شهيد أو أكثَر كلّ يَوم ليسَ صحافَة إستقصائيَّة. هذا جُرم ويساعِد على انكِشاف مؤسسة معنيَة بمحارَبَة الإرهاب التّكفيري. كلّ ضربٍ لِهَيبَتِها يجعَل التّطاول عَليها واستهدافَها أسهَل. المؤسَّسَة العسكريَّة آخِر ملاذ للشعب الذي باتَ يعيشُ القَرَف مَرضاً مزمِناً. انتزاع هذا الامَل مِن الناس كَمَن يطلِق عليهم رَصاصَة الرَّحمَة. فلتلقِّم الصّحافَة الإستِقصائيَّة سلاحَها في وجهِ الطّبَقَة السياسيَّة. في وجهِ مَن أفقَرونا ونَهَبونا وكذبوا علينا وعلى أولادِنا. قصص بالجملَة والمفرَّق متوفرَّة وبِغزارَة عَن موبِقات هذه الطبقَة الفاسِدَة. أُنبشوا مستَندات الوزارات والمؤسسات العامَّة. في كلّ مستَنَد تَجِدون اختلاساً وسرِقَة وسوء إئتِمان. السّلوى بالجيش مجد صُحُفي باطِل. أُتركوهُ لَنا ولَكُم أيها الصحافيون الإستِقصائيون.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.