نقلا عن المركزية –
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “إن المعنى الأساسي للصليب في حياة الكنيسة تعبر عنه بجلاء طريقة تعييدنا للأحداث المرتبطة به. ففي الرابع عشر من أيلول، نقيم تذكار رفع الصليب الكريم المحيي في كل العالم. تحدد الكنيسة فترة تهيئة قبل العيد، وفترة امتداد بعده. الأحد الذي قبل عيد الصليب والذي بعده مكرسان لعود خلاصنا المغبوط. تتحدث كل التسابيح والقراءات التي تتلى على مسامعنا عن مكانة الصليب في وجدان المؤمن الحقيقي، وعن طريقة المشاركة في نعمة سر الصليب. ما يلفت انتباهنا في قراءة إنجيل اليوم، العلاقة بين الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية وبين صليب المسيح. المسيح نفسه يشير إلى تلك العلاقة كاشفا عن معنى الحدث الحقيقي في العهد القديم”.
أضاف: “إن صغر النفس عند الشعب العبراني، عندما ضل في الصحراء، آل به إلى التذمر على الله وعلى موسى بعدما أخرجاه من أرض مصر. شعروا أن العبودية أكثر احتمالا من حياة الصحراء القاسية، وعميت عيونهم عن مشاهدة عطايا الله. إلا أن هذا التدريب الذي منحهم إياه الله اتخذ صفتي الكشف والنبوة. كشف عن المأساة الداخلية لأبناء إسرائيل، وأنبأ رمزيا عن خلاصهم من هذه المأساة. كانت الأفاعي التي أماتت العبرانيين صورا حسية عن أفكار الخطيئة السامة والإلحاد التي أماتت نفوسهم. أما الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية حسب وصايا الله، فترمز إلى الصليب، وإلى عود الخلاص الذي سحق المسيح عليه «من له سلطان الموت»، أي إبليس. على الصليب نرى جسد المسيح متأثرا بالجلدات، وفي الوقت نفسه ندرك أنه منزه عن التألم. إنه جسد إنسان، لكن بلا خطيئة، كما أن الحية النحاسية هي بلا سم. لقد حمل المسيح عواقب خطيئة العالم على عاتقه، هو المنزه عن الخطيئة، لذلك كان موته ظلما، إذ ارتكب فيه الشيطان اختلاسا للسلطة، لأنه لم يملك سلطة الموت إلا على الذين انجرحوا بشوكة الخطيئة. أما في حالة المسيح، فقد حقق إبليس ظلمه غير المحدود. لذا، بادر الله العادل إلى إلغاء سلطة الشيطان بموت المسيح. من هنا، نرى على الصليب موت الخطيئة. الحية النحاسية ترمز إلى موت الحية العقلية، إلى موت الشيطان. وفيما نجعل انتباهنا الداخلي، أي كل كياننا، عند الصليب، ننتعش بسبب إماتة الموت والشيطان وهدم الجحيم كما نرتل في أحد الفصح المقدس، ونأتي إلى الشركة مع الحياة الحقيقية، أي المسيح”.
وتابع: “واضح أن الصليب لا ينفصل عن المصلوب، لأنه ليس مجرد شكل، ولا رمزا لفكرة ما، بل هو يشمل محبة الله كلها للعالم. هنا، لا بد من الإشارة إلى أشكال من الصلبان يعلقها المسيحيون في أعناقهم، لا تمت إلى الصليب بصلة. الصليب ليس موضة تتغير مع الزمن وحسب المزاج، ولا سلعة يغير البائعون شكلها كي يحققوا أرباحا أكثر. هذا ما نشدد عليه في المعمودية، عندما نطلب إحضار صليب عليه المصلوب ليعلق على صدر المعمد، عملا بقول الرب: «من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مر 8: 24). الصليب هو قوة الله التي تجدد الخليقة، لذلك لا ينفصل عن القيامة، لأنه لو لم يرتبط بالقيامة لكان مجرد أداة قتل وإجرام. لذلك على كل من يعتبر أن بندقيته أو مدفعه أو خنجره هي أدوات خلاص، أن يسميها ما يشاء من التسميات القتالية والحربية دون ربطها بالخلاص. قتل البشر لا يخلص أحدا، لكنه يزيد الأحقاد وردات الفعل ، ولا يجلب خلاصا، بل دما فوق دم. أما الصليب فهو باب الحياة، وهذه الحقيقة تظهر نتائجها في حياة المؤمن اليومية حيث يعبر التزاوج بين الصليب والقيامة عن الإيمان المستقيم، وكنيستنا هي قيامية، مركز حياتها الصليب. الإيمان القويم يرشد المؤمن إلى مشاركة نعمة الصليب، ذلك بالطاعة لمشيئة الله، التي مرارا كثيرة تصطدم بمشيئتنا الذاتية الخاطئة، ويتم انتصارنا الحقيقي عندما نسمر جسد الخطيئة طوعا على صليب وصايا المسيح. هذا الألم يتولد من الإيمان، والإيمان يقودنا إلى ألم التوبة الشافي”.
وقال: “في خضم الأزمات التي تعصف ببلدنا، الواحدة تلو الأخرى، قد كبر صليب الشعب جدا، فما عاد قادرا على التحمل، إلا أن الإيمان بالله والرجاء بغد أفضل، قد يساعدان في تخفيف الحمل. لكن هل الغد الأفضل سيأتي، في ظل أناس لا يهتمون إلا بحسابات ضيقة، مفضلين جر البلاد والعباد إلى هاوية لا قعر لها، عوض التنازل عن مصالحهم؟ فالحكومة لم تشكل لغايات وأسباب، ولو صفت النيات لشكلت منذ زمن. والنواب المنتخبون يتأرجح معظمهم بين المصالح الخاصة ومصالح الجماعات التي ينتمون إليها، ولا يحسبون لمن انتخبهم حسابا. ولم يدعوا بعد لجلسة انتخاب رئيس للبلاد، رغم بدء المهلة الدستورية. والغريب أن الجميع يتحدث عن شغور في سدة الرئاسة وكأنه حاصل، عوض العمل الحثيث لإجراء الإنتخاب وتأمين انتقال طبيعي للسلطة في الوقت المحدد في الدستور”.
أضاف: “إن المبادرة التي أطلقها النواب المسمون تغييريين جديرة بأن يلاقيها كل نائب يحرص على القيام بواجبه وعلى إنقاذ البلد. تضافر الجهود واجب، وتطبيق الدستور أول الواجبات، وعلى المجلس النيابي ورئيسه القيام بواجبهم مهما كانت الظروف والعقبات. إذا استمرت المناكفات وزاد التباعد لن تبقى جمهورية لينتخب لها رئيس. لذلك على الجميع التحلي بالتعقل والحكمة والحس بالمسؤولية. النية الحسنة وحدها لا تكفي، كما الوعود والكلام المعسول. المطلوب أفعال على مستوى الظرف العصيب، تلاق وحوار وقرار، بعيدا عن المصالح والإرتباطات”.
وتابع: “هنا نسأل: هل تعطل جلسة انتخاب رئيس حتى الاتفاق على إسم؟ وإذا لم يتم ذلك هل نرمي البلد في المجهول؟ أليس الأفضل أن يعلن من يرى في نفسه الكفاءة والقدرة على تولي المسؤولية ترشحه ورؤيته وبرنامجه، ويجري التنافس بروح ديموقراطية راقية؟ وما الضير من وجود عدة مرشحين؟ ولينتخب النواب من يقتنعون ببرنامجه وكفاءته ويرونه أهلا لتحمل المسؤولية في هذا الظرف، وليكن انتخابهم بحسب ضميرهم لا بحسب الإملاءات والمصالح. بعد كل التحولات التي حصلت، لم يعد مجال للتسويات كما في السابق، ولم يعد جائزا التلاعب بمصير البلد وأبنائه. المطلوب تضافر الجهود من أجل إنقاذه. ووجود رئيس وحكومة فاعلة ليس ترفا بل ضرورة. وعلى جميع المعنيين التخلي عن مصالحهم وأنانياتهم وأحقادهم وكل ما يعرقل إتمام الإستحقاقات. الإنتقام صغارة لا تليق بالكبار الذين ينشغلون بالقضايا الكبرى عوض تضييع الوقت بالحرتقات. والوقت لم يعد متوفرا لأننا أصبحنا في قعر القعر، وقد غزا اليأس النفوس وشحت الموارد وضاقت سبل العيش حتى أصبح اللبناني يغامر بنفسه وبعائلته ويخوض غمار البحر مفضلا المجهول على العيش بلا كرامة. أصبحنا نعيش تحت رحمة شريعة الغاب، حيث القوي يأكل الضعيف، وحيث يغيب حضور الله تماما”.
وقال: “هنا نؤكد مجددا على ضرورة كشف حقيقة تفجير المرفأ وعدم تعطيل التحقيق طمسا للحقيقة. وعوض تعيين محقق رديف، أليس الأفضل تيسير عمل القاضي الأصيل؟ مؤلم ومخز عرقلة عمل الأصيل ثم الإتيان برديف. وكأنهم يستخفون بعقول الناس وبألم المصابين وأهالي الضحايا. وهل يجوز انقضاء أكثر من عامين على تفجير أودى بأرواح الناس وبروح العاصمة ولم تنجل الحقيقة بعد؟ هذا غريب وغريب جدا”.
وختم: “تحت نير الآلام التي يعاني منها شعبنا، لا بد من أن نتذكر قول الرسول بولس: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 13). كيف قوانا المسيح؟ عندما صلب وأمات الموت بموته، حتى لا يعود شيء ولا أحد ولا حتى الشيطان يتسلط علينا”.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.