عذراً مِمَّن خالطَني..
بِقَلَم روني ألفا
لبنان بلدُ الطوابير. تطاردنا الكلمة منذُ حوالي نصف قرن. المواطنون يقفون طوابيرَ أمامَ الأفران كرمَى لربطة الخبز. طوابير من السيارات مصطفّةٌ أمام خراطيم محطات البنزين للتزود بالوقود. طوابير من الشاحنات محمّلة بالمواد الغذائية تقف عند الحدود اللبنانية السورية. اللائحة تطول.
بلدنا مرتعُ ” الطابورِ الخامس ” أيضاً والذي له حَسَبٌ ونَسَب. العبارةُ إسبانيةُ المنشأ وتفوقُ ال ” باسو دوبلي ” المُواكبةَ لمصارعة الثيران في مدريد شهرةً. عودةٌ الى العام ١٩٣٦ من القرن الماضي للإضاءة على ولادة المصطلح. يومَها سُئِلَ اللواء ” إيميليو مولا ” وكان خلال الحربِ الأهلية الإسبانية قائداً لجيشِ الشمال ” أي على رأس الطوابيرِ الأربعةَ الموكول اليها فتح مدريد “. أجاب ” مولا ” وكان صديقَ الجنرال فرنكو وحليفَهُ أن هذه ستكون مهمةُ ” الطابور الخامس ” في إشارة إلى أنصار فرنكو الموالين للملكية آنذاك. من داخل مدريد أسقطَ الطابورُ الخامس مدريد.
صار يرمزُ المصطلحُ مذ ذاك على ألسِنة المحللين وتعليقاتِ الصحفيين والبحّاثةِ في علوم التاريخ والإستراتيجياتِ العسكرية والمخابراتية إلى الجيشِ الخفي الذي يعملُ من الداخل لنصرةِ الخارج.
كل ما في لبنان طابور خامس. شعبٌ دوكما تُكتَبُ أقداره بِحِبرِ هذا الطابور دون أن يتسنى لأحد على الإطلاق كشفُ مكانِ إقامة هذا العدو الخفي الساكنِ في مدننا وأحيائنا أو كشفُ هوية أعضائه.
أما الطابورُ المستجدُّ علينا فطابور ” كورونا “. صارَ لهذه الجرثومةِ المتوّجةِ بإكليلٍ خدمةُ ” درايڤْ ثْرو ” عبارة عن خطٍ مستقيمٍ أو حلزوني من المواطنين في مقصوراتِ سياراتهم. في طابور كورونا ينتَظِرُ الناسُ كل يومٍ صباحاً ولساعاتٍ طويلةٍ دورهم قبل أن يصلوا إلى فريقِ المختبر فيُكافئونَ بعودَين أبيَضَين طويلَين رفيعَين وصَلبَين مزوّدَين برأسين قطنيَّين مروّسَين. واحِدٌ يلجُهُ عاملُ المختبر في جوف منخرِكَ الأيمن وآخر يغرسُهُ في الجوفِ الأيسَر. يحرصُ العامِلُ على برمِ العودَين يمنةً ويسرةً في أعمق نقطة ممكنة داخل فَتحَتَيك كأنه يبرُمُ مفكَّ براغٍ في برغٍي ” مُصَدّى “. تشعرُ عند إيلاجهما وكأنَّ صعقةَ توترٍ عالٍ بشحنةِ ألفِ ڤولت أصابت نخاعك الشوكي.
لو صدفَ وجودُ مصوّرٍ محترفٍ في اللحظة هذه من طراز الزميل نبيل إسماعيل مثلاً لكنتَ شاهدتَ وجهَك على الشكل التالي لحظة الإيلاج: عينان مغمضتان غائرتان في حدقَتَيهما. إنسلاخٌ مفاجئ لشفَّتِك العليا عن شفَّتِك السُّفلى كعلامة إمتعاض. ظهورٌ إستراتيجيٌّ للَّثَتِكَ وأسنانِكَ بشكلٍ سافِر. باختصار، كل ما يمكن أن يرشدَ أتباعَ نظريةِ النشوءِ والإرتقاء الداروينية أننا أبناءُ عمِّ فصيلةِ ال ” أوران أوتان ” أذكى سلالات القردة.
فحصُ ال PCR أشبَهُ باغتصابٍ من الأنف. تفقدُ فجأةً عذريَّتَه على يد شخصٍ لا تربطك به أي صلةٍ عاطفية. غريبٌ على قارعةِ الطريق يفضُّ بكارةَ أنفِك بنزوةٍ عابرة. الفرقُ بين الإغتصابِ الجنسي والإغتصابِ الأنفي أنك تدّعي على الأول بسبب فعلته الشائنة أمام القضاء المختص فيما تشكر الثاني على ما جنَتهُ يداه وتطلب اليه تزويدَك بنتائجِ اغتصابه وإرسالِها على هاتفك بأسرع وقت.
عصراً أو في صباح اليوم التالي يرسلُ إليك المختبرُ عبر خدمة واتساب صورةً مغبّشةً تعرفُ أنها نتيجةُ التعدي عليك. تشعرُ بإحساسٍ هو مزيجٌ من الإثارة والخوف. شعورٌ يشبِهُ انتظارَ رقمكَ التسلسلي على اذاعة لبنان الرسمية وقت إعلان نتائج الباكالوريا في الثمانينات.
تنقرُ الصورةَ بعينين جاحِظَتَين لتقرأ. نتيجتُك سلبية. تبدأُ كالأبله مثلي تماماً بإرسالها إلى الأصدقاء في لبنان والمهجر. تشعر كأنك من مقاتلي ” السومو ” وقد بطَحتَ سومو آخَر في مباراة أولمبية ينقلها التلفزيون الياباني . نتيجتُك إيجابية. تنتحي جانباً. تتلبَّسُكَ سحنةٌ فلسفيةٌ تأمليةٌ أفلاطونيةٌ في الوجود والعَدَم. تتفكرُ في هزالةِ حياةٍ تهددها جرثومةٌ بِحَجمِ جزءٍ من ترليون جزءٍ من المتر قياساً في الطول والعرض وأخفّ وزناً بأضعاف من النانوغرام .
بعدَ استيقاظكَ من الصدمة تبدأُ بروتوكول الأدوية والعلاج. يحجرُكَ محبّوك ويبدأُ رثاؤكَ على حياتِك. في مرحلة لاحقة يتبادرُ إلى ذهنك ال ” أوران أوتاني ” أنك خالطتَ آخرين وربما تكون جَنَيتَ عليهم. تبحثُ عن جملةٍ مفيدةٍ تنشرها على فايسبوك تعتذرُ منها من كل ” مُكَورَن ” محتَمَل لأنه خالطَك. خليط من رسالة إعتذار منهم وإطلاق نار عليهم. ” أجريتُ فحص كورونا وأتت نتيجتي إيجابية. أعتذر من كل من خالطته وأدعوه الى إجراء الفحص والتأكد أنه غير مصاب. أنا محجور لمدة عشرة أيام. أدعو بالصحة للجميع “.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.