حديث ما قبل كَراتين الإعاشَة
بقلَم روني ألفا
جريدة النهار اليوم
عندما اجتاحَ الجرادُ لبنان في العام ١٩١٤ حَصدَ إلى جانبِ الحصارِ الذي فرضَه الحلفاءُ على العثمانيين مجاعةً ما زالَ المؤرخونَ يكشفونَ النقابَ عن تفاصيلِها المروِّعة حتى اليوم ( العودَة إلى كتاب ” الشعب اللبناني ومآسي الحرب العالمية ” للمؤرخ الدّكتور كريستيان توتل)
تشيرُ معلوماتٌ موثقةٌ أن المجاعةَ زهقتْ حياةَ خُمسِ سكان لبنان وهي نسبةٌ لم يعرفها أيُّ بلدٍ مُنِيَ بخسائرَ بشريةٍ نتيجةً للحربِ الكونية الأولى.
من أصل مليون لبناني آنذاك مات مئتَا ألف. كانت الجثثُ ممدَّدةً على الطرقات. العديدُ من الأشخاص كانَ يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرة أمامَ المارة. مشهدٌ لم تتخيله ” هوليوود ” ولا خطرَ ببالِ مخرج الموت ألفرد هيتشكوك. بعضُ اللبنانيين اضطرَّ يومَها الى أكلِ أولادِه بعد لحظاتٍ من وفاتهم. الجثث الطازجة حلّت محلَّ الخبز وجنّبت العائلات المنكوبة الموتَ المُحتَّم.
الضحايا بأغلَبِهِم كانوا من جبل لبنان وهي التسميةُ التي كانت معتمدةً للدلالةِ على الولايات العثمانيةِ آنذاك. جبلُ لبنان يومَها كان في عهدةِ فرنسا لاعتباراتٍ طائفيةٍ وثقافية. لم يُرسِلْ لنا الفرنسيون خبزاً ولا جبنة حتى نُقاومَ الجوع. بعض المُسنّين من الذين بقوا على قيدِ الحياة رَووا هذه المأساة لأحفادهم في القرن الحادي والعشرين. مأساة أن تكونَ محميًّا من دولةٍ عُظمى ومحرومًا حتى من عَظْمَة. كان الفرنسيون يعتنون من باريس بمواقفهم المتضامنة مع اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً فيما كان المسيحيون والمسلمون يبحثون في برازِ الخَيل عن بعض الشعير والزؤان لسدِّ جوعِهِم.
لا ندّعي استجلابَ مجاعةِ ” الأربعتعش ” على حالِ اللبنانيين المزريةِ اليوم. ليسَ هناكَ أيُّ دراسةٍ يُعتدُّ بها تشيرُ إلى عددِ الجِياع في لبنان. عددُ اللبنانيين الذين يعيشونَ تحتَ خط الفقر يمكنُ أن يُقَدَّرَ بمليون ونصف المليون شخصٍ معتمدين معيارَ المنظماتِ الدولية التي حددتْ خط الفقر بمدخولٍ فرديٍ لا يتعدّى الأربعة آلاف ليرة لبنانية في اليوم. قياسًا على هذه المعادلة واحتسابًا لسعر صرف الدولار في السوق السوداء حتى لحظة كتابة هذا المقال فإننا نتحدث عن حوالي عشرة دولارات شهرياً. مع رفع الدعم تحت عنوان ترشيدِه سيكونُ من المستحيل على أكثرِ من نصفِ اللبنانيين على اقلِّ تعديلٍ تأمينُ ضرورياتِ الحياةِ الكريمة. لن ندخُلَ زمنَ المجاعةِ بالطبع إنما لن يتوفَّرَ لنا مأكلٌ ومشرَبٌ كما في الماضي. نَقدُنا الوطني سيعجزُ عن شراء حاجياتنا وسيعتمدُ سوادنا الأعظم في أمنِنا الغذائي على كراتين الإعاشة. ستطعمُنا المنظمات. الأغنياءُ منا سيوزعون على الفقراء دجاجًا بيّاضًا يبيضُ لأولادهِم عِنْدَ كل صباحٍ بيضاً بلديًّا طازجًا.
كنّا نتندَّرُ على الفجل بسبب بخسِ ثمنِه ( بيِسوَى فِجلِة ) إلى أن صرنا نشتري الباقة الواحدة منه بأكثر من ثلاثة آلاف ليرة. صحنُ الفتّوش باتَ ثمنه يوازي عشرة بالمئة من الحدّ الأدنى للأُجور. فوق كلّ هذا الطين بلّةُ الجَراد. أضِف السعودية التي تقاطعُ خضارَنا وفاكهتَنا لأننا نهرّب المخدرات في الخسّ والملفوف. أما القضاء في بلدنا فصارَ غبّ الطلب. البضائعُ المدعومةُ تُهَرَّبُ الى كل البلدانِ الشقيقة إلا إلى بلَدِنا . رفعُ الدعم قريباً سيحوّلُ البنزين إلى مشروب اللصوص الأوَّل. ستعود موضة شفطه بالنرابيج من خزانات سياراتنا. حاوياتُ القمامة ستكونُ مطاعمَ الفقراء ودولار المستشفيات سيكون أكثر إيلاماً من الأمراض المستعصية. وسط كل ذلك يطالبنا رئيس الجمهورية بمزيدٍ من الصبر حتى نكتشفَ من سَرقَ أموالَنا وننتظرَ استردادها. ما همّ المتوفّي فخامة الرئيس من تابوت خشب صناديق أو آخَر خشب أرز؟. الرحلة واحدة والمآل واحد. كل ما نحصل عليه صوت رئيس الجمهورية يرتفع ضدّ ضابط عبر الهاتف. نتساءَل عما جنيناه طوال عقود من الأصوات العاتية العالية والصّراخ.. من أجل حقوق المسيحيين على وجه الخصوص. بالإذن. مشغول حالياً برشّ مبيدات ضدّ الجراد في حديقَتي تحضيراً لدخول السوق الإقتصادية المشرقية المشتركة. سوقٌ ستكون حلاً ناجِعاً لمآسينا مثلها مثل أكاديمية حوار الحضارات التي أثمَرَت لبناً وعسلاً وبرداً وسلاماً.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.