بين الذُكورة والأُنوثَة ” ذُكوثَة ”
بقلم روني ألفا
جريدة النهار اليوم ١٤-٤-٢٠٢١
نحنُ اللبنانيين في عمر اليأس. ليس بالمعنى الذي تُطلَقُ فيه هذه العبارة على النسوةِ التي يخونُهنّ الحيض. لطالما تساءلتُ في علم التناسل عن السبب الذي يدعو الى إلصاق سن اليأس عند المرأة بفقدان جهازها التناسلي القدرة على اجتراح معجزة الحَمْل. أجملُ العمر الأنثوي هو أن تعيدَ المرأةُ الإحتفاءَ بمسامِها خارج الأمومة. الأمومة فوق الصراع الجندري. هي في الحقيقة ذكوريةٌ وأنثويةٌ منصهرتان في جنسٍ واحد. جنسٌ بإمكانِنا أن نطلقَ عليه اسماً مركباً من لفظِ الجنسين معاً: ” ذُكوثة “.
يأسُنا الوطني من نوعٍ آخَر. حيضٌ لا يتوقفُ يتناسلُ خيباتٍ متتالية. حَمْلٌ مستمرٌ من دون ولادة. نحملُ لعنات الآباء المؤسسين للجمهورية ونضطر الى مديح أُبوَّتِهم. الأزواجُ الذين تعاقبوا على ممارسةِ الفحشاء مع تاريخِنا أكثر من أن يُحصوا. نحن بالمعنى القومي والسياسي أولادُ زِنى. أكرِّرُ، بالمعنيين المذكورين. الوطنُ الحلم والمرتَجى وذاك الذي نعتدُّ أنه ذُكِر عشرات المرات في الكتاب المقدس هو مثلُ الأمومة. خارجَ التصنيفِ القومي والسياسي. وطنُ ” ذكوثةٍ ” إذا صحَّ التعبير.
آخرُ إرهاصاتِ الأبوَّةِ اكتشافُنا أننا أبناءُ الرئيس عون. ليسَ من قَبيلِ الصُدف أن تَسري عبارةُ ” بيّ الكل ” كالنار في الهشيم. الفرقُ في هذا التصريحِ الأبوي أنه يختصرُ كلَّ الآباءِ في أبٍ واحد. مزيجٌ من الثيوقراطية والأوليغارشية لا نجدُه في تجاربِ الأمم إلا في ما نَدَر. الرئيسُ المُلهَم الذي تحيطُ به هالةٌ تجعلُهُ أكبرَ من الجمهوريةِ التي يتبوأُ رئاستَها ومحاطاً بأبناءٍ بالتبنّي يديرون مشروعَ أبوَّتِه على اللبنانيين.
نجدُ هذا النموذج السياسي في ” المَلك المُستنير ” عبر التاريخ. بعضُ المراجع تطوّبُ الظاهرةَ تحت مسمّى ” الطغيان المُستنير “. الكاتبةُ السويسرية الفرنسية مدام ده ستايل التي عاشت في القرن الثامن عشر وعاصرتْ ظاهرةَ الطغاة المُستنيرين كانت تقول أن ظاهرتين فقط تشبهان في بُنيَتِهِما وأدائِهما سلوكيات الطاغي المُستنير هما الرهبانيات والجيوش. نَفِّذ ثم اعترِضْ هو النموذجُ المتاحُ الوحيد. خضوعٌ ضروريٌ لثقةٍ عمياءَ بالقائد وبمشروعه المُنبثق من فلسفةٍ محددة لصيرورة التاريخ.
الرئيس عون مِثاليٌ في نظامٍ رئاسي. يمتلكُ كلَّ مقوماتِ عقلنةِ الدولة بناءً على رؤيا وفلسفة إصلاح. مِن أكاديمية الحوار بين الحضارات إلى الحَج والصلاة على قبرِ القديس مارون في سوريا وصولاً إلى تذكير اللبنانيين برتبته العسكرية ومروراً بعشرات الشطحات الرسولية في مواقفه ( وهي تستحقّ دراسة سيكولوجية في بعديها العِيادي والإجتماعي ) يبدو لنا أن الرئيس ينحو إلى موقع مرشدٍ أعلى منه إلى رئيس. بالمعنى الموضوعي المجرد نوردُ هذا التوصيف لنفهم على الأقل نظرياً سبب ثورة الجنرال – الرئيس على نظامٍ أقرّه الطائف وجاهر هو برفضه جملة وتفصيلاً بالرغم من أنه إفرازٌ من إفرازاتِه.
نحن في زمنٍ يتراجعُ فيه النموذجُ الغربي للديمقراطية الدستورية. من كزي جنبينغ في الصين إلى فلاديمير بوتين في روسيا إلى رجب طيب أردوغان في تركيا إلى دونالد ترامب في أميركا وإيمانويل ماكرون في فرنسا يرسّخ المتنورون الجُددُ نظاماً غيرَ مسبوقٍ في الأزمنة المعاصرة. نُسَخُ جديدةٌ منقحةٌ ومعولمةٌ عن الدكتاتوريات البائدة. نسخٌ تكادُ تتسرّبُ كَبقعةِ زيتٍ في الشرق الأوسط وأفريقيا. بوتين وقّعَ منذ أيام مرسوماً يسمحُ له بالترشّح لولايةٍ جديدة في العام 2024. ترامب يَعِدُ الحزب الجمهوري بالإستيلاء على الكونغرس بعد أربع سنوات. موضةُ تعديل الدساتير لتأبيدِ الرؤساء. من هذا المنظار لا يدهشُنا أن يعملَ الرئيس عون على التوريث السياسي ولا غيُره إلى قونَنَةِ ودستَرَة تأبيد السلطة.
الملكياتُ البتروليةُ ما زالت قادرةً اليوم على شراء خُضوع مُواطنيها بشيء من البحبوحة. الأنظمةُ الديمقراطية ومن ضمنها لبنان أعجزُ من أن توفّرَ ذلك. تعمدُ إلى تظهير مسؤوليها كرموز إصلاحية بمهمةٍ رسوليةٍ تتمحورُ حول محاربة الفساد. الخطابُ الوحيدُ المتاحُ للسيطرةِ على شعبٍ لَزِجٍ ومَرِنٍ لأنه يتجاوب طائفياً. بهذا الأسلوب الملائكي يأملُ المسؤول وأدَ الثورة وتبنيجَ الإستياءِ دون المَسّ بالنظام الديمقراطي. ” ذُكوثَةُ ” النظام ليتعذَّر تصنيفُهُ.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.