بشريَّة مِن حَنجورٍ مُطَهِّر – بقلم روني ألفا
أكتبُ إليكَ بِحَرارَة. يا مَن تلازِمُني ليلَ نَهار. رَفيق دَربي وزَميل وسادَتي وحَبيب أصابِعي وخَليل أوقاتي. أحضنُكَ في راحَةِ يَدي. أتأمَّلُ عَلى مَدارِ السّاعَةِ كَم دمعَةً ذَرَفتَ مِن أجلي. تَبكي كلَّ يَوم مِن أجلي لأكونَ سالِماً مُعافَى. خيرُكَ وأفضالُكَ عَليَّ وعَلَى أولادي. أخونُكَ فلا تتذَمَّر. أرميكَ فلا تتفوّه بإساءَة. أُعَنِّفُكَ ضَغطاً وكَسراً وخلعاً فتعطيني حبَّكَ وحِرصَكَ بِسكوتٍ وتَواضعٍ ومحبَّة. ألمسُ بإبهامي فَمَكَ المُطيع فتفتَحُهُ لي طائِعاً مُختاراً. زرعتُكَ في كل غرفَةٍ مِن بَيتي. في جيبي وفي سيارَتي ومركَز عَمَلي. بتَّ هاجِسي وعِطري. صرتَ الأمكِنَة والأزمِنَة وَصديقي أوقات ضيقي وأقرَب من كلّ عائلَتي وأحبّائي إليّ. شكراً لِحضورِكَ في حَياتي. سِلاحي ومِنعَتي ودِرعُ خَلاصي. مَعاً يا حَنجورَ مطهِّرِ اليَدَين حتّى يفرِّقنا المَوت.
كورونا جرثومَةٌ ضِدَّ الحَياة بالطّبع إنّما ضِدّ أسمَى ما فيها أعني الغيريَّة. الغيريَّة هيَ أن تجعَل لِحياتِكَ مَعنى عبرَ الآخَر. أن تُعانِقَه فِكراً وجَسَداً. الآخَر مرآة الذات. كورونا غيَّرَت في طبيعَة الحَياة. جَعَلتها عِناقاً مَع مطهِّر يَدَين وكَمّامَة. صِرتَ أنتَ وأشياءَكَ هذه تَعريفاً لغيريَّة هَجينَة. تُعلِّمكَ كورونا أنَّ غَريزةَ البَقاء قادِرَةٌ عَلى تَحويلِكَ إلى وَحش عزلَة. أنتَ وكورونا دورَة حَياة متكامِلَة من دون حاجَة إلى تدخّل أحَد. صرتَ محِبّاً للأشياء. تشاهِد مَوت الآخَرين بعدَسَة كورونا. تسدي إليك الجرثومَة هديَّة مَلغومَة. تمنَعُكَ مِن حضور الدّفن والقيام بِواجِب العَزاء. المَوت مَع كورونا باتَ وفاةً فايسبوكيَّة تُقابَل بِعبارَة مِن كلِمَتَين: تَعازينا الحارّة. سَريعاً تَعودُ إلى مستلزَمات حياتِك الإنعزاليَّة الجَديدَة وعلاقَتِكَ العاطفيَّة مَع الأشياء: حَنجور مُطَهِّر اليّدَين والكَمّامَة.
مسافَة إجتماعيَّة آمِنَة. عَلى بعد مِترَين تفقِد القدرة عَلى قِراءَة الآخَر. مشالَحَةٌ آمِنَةٌ ثمّ انطلاقٌ إلى وَطن العزلَة والوِحدَة الذي أسَّستْهُ الجرثومَةُ لَك. أنتَ مَعها مواطِنٌ في كيبوتز. في مستعمَرَة مِن مستَعمرات الإتحاد السوفياتي السابِق. في بالون نايلون. تَعيش مثل الجرثومَة غير مَرئي وتَموت مثلَها غير مَرئي أيضاً. بِوجودِها في حياتِكَ أنتَ مَحجور مِن دون قَرار مِن مجلس الوزراء. أنتَ الحَجر بِذاتِه. تَحجر نفسَك بِنفسِك وتَحجُر عَلى كل مَن تسوِّلُهُ نفسُهُ الإقتراب مِنكَ على مسافَة غير آمِنَة. مِن المؤكَّد أنَّ معالَجَة آثار كورونا عَلى طَبيعَة الحَياة سَتَكون أصعَب بِكَثير مِن إيجاد لقاح لإنقاذِ الحَياة.
مَع مُطهِّر اليَدَين صارَ في نِظامِنا العَصَبي غَريزَةً جديدَةً ضِدَّ المصافَحة. أصابِعُكَ لَم تَعُد قادِرَةً عَلى التمدُّد خارِج نِطاقِها اللَّحمي. حدود أظافِركَ هي أقصى طموحِها الإجِتماعي. صارَت بالكاد أدواتٍ للإمساك بأدواتِ المَطبَخ والحِكاك. فَقَدنا عادات آلاف الحَركات الطّوعيَّة مثل تسريح أصابِعِنا في ضَفائِر شخصٍ محبَّبٍ إلينا. المطهِّر صارَ سجناَ مَركزيًّا لأصابِعِنا. شيءٌ مِن تأنيبِ الضّمير يصيبُنا كلَّما تَجرّأنا عَلى لَمسِ الممنوع. النقّود وأكياس التبضّع وجاكيتَة أحد زملاء العَمَل. الآخَر بِكلّ أبعادِه صارَ عدوّاً قاتِلاً محتَملاً. مَع الكَمّامَة نعيشُ أسوأ ما على فَمِنا. البسمَة أصابَتها كورونا في المَقتَل. إبحَثوا عَنها في غِطاء مِن قِماش. حاوِلوا التبسُّم. ستفعَل أعيُنُكُم ما في وسعِها لتأخذَ وَظيفةَ شِفاهِكُم. أفواهٌ بِرسمِ ثاني أوكسيد الكَربون واغتيالٌ يوميٌّ لأرَقى ما رسمَه الله عَلى الشِّفاه..البسمَة.
شيءٌ غَريبٌ ومُخيفٌ في الوقتِ عينِه بدأَ يتسلّلُ إلينا. إستِسهال المَوت وانتظارُهُ في أيِّ وقت. بالطّبع وصيّتُنا الإلهيَّة تنصُّ عَلى أننا يجِب أن نَكون حاضِرين لأننا لا نعرِفُ مَتى يأتي السّارِق. قبلَ كورونا كنّا نأخذ هذا الكَلام عَلى سبيل المَونَةِ والنُصحِ لا الزَّجر. مَع الجرثومَة صِرنا ننتظرَ السارِق بشيءٍ مِن التوكّل والتّسليم. جرعات المأساة صارَت أقلّ تَدميراً لأعصابِنا. اليَوم جارُنا الآدَمي في الحَيّ المُقابِل. غَداً جارُنا في الطّابِق السّادِس وبعدَ غَد حَسَب نزوَةِ السّارِق. خلال كل هذا الوقت نعيشُ حَياةً هانئَة مَع مطهّر اليَدَين والكَمامَة في غربَةٍ عَن ذاتِنا وعن الآخَر. إنه مَوتُنا قبلَ المَوت ولَم يحدث ذلك بهذه الضّراوَة قبل هذه الأزمِنَة العِجاف.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.