إثمُنا أننا أَنجَبنا
بقلم روني ألفا
جريدة النهار اليوم
أولادُنا نحنُ مواليدُ الستّينات لَم يعيشوا زمَنَ الملاجِئ حينَ كنّا نتعرَّفُ على صوت إنطلاقَة المدفَع ونميّزهُ عَن صَوتِ إنفجارِ القَذيفَة. كنّا نعرف أين سقط الصاروخ وأي حيِّ أصاب وفي أي طابقٍ هبط. اكتسبنا على مدى خمسين سنة تقريباً خبرةً لا يستهان بها في التمييز بين أصوات الصواريخ والعبوات والكِلل المدفعية وترددات زخّات الأسلِحَة المتوسطة مثل ال 500 والدوشكا والآر بي جي ومن ينتمي إلى فصيلتها وشجرتها العائلية.
نحن جيلٌ عاشَ على الشّمعة والدّمعَة. سهرَ على القناديل ليلاً وعلى تعداد الضّحايا نهاراً. على تَحضير فرشات الإسفنج في الملاجئ ليلاً وعلى تكنيس زجاج واجهات بيوتنا ومحلاتنا نهاراً. كل مفردات الحرب تعلّمناها. الأخويّة والأهليّة والضَروس وحرب الآخرين على أرضِنا. حرب الخنادق والفنادق. حرب المئة يوم وحرب السنتين والتلات تمانات ومثلثات الصمود. حرب التحرير التي لم تُحَرِّر والإلغاء الذي لم يُلغِ مع الحرص على عدم جرح شعور أحد من قدامى المسلحين وقطّاع طرق أرزاقنا وأعناقنا.
عشنا كل الويلات بما فيها غرق الأطفال على شواطئنا في محاولة أهلهم الهرب بريشهم في زوارق الزودياك وقوارب الصيادين و” الهيدرو غليسّور “. كلّ توابيت أحبائِنا ما زالت في حُفرِها. شواهد قبورها لو حكت لأخبرت قصصاً يندى لها الجبين وتقشعرّ لها الأبدان. شاهدنا سحل الجثث في كميونات عسكرية من البلاكين وإعدامات عرفية قررتها محاكم الأمر الواقِع. يومها كنا نتسمّر على شاشات التلفزة لنشاهد بروباغاندات الميليشيات تبثّ الفتنة بين المسيحيين أنفسُهم وبينهم وبين المسلمين وبين المسلمين أنفسهم وشاهدنا بعدها مسلسلات الإغتيالات بالسي فور والتي أن تي التي كان عمّال الإنقاذ يُلملمون أشلاء ضحاياها من الطوابق الشاهقة في الأبنية السكنية وعاينّا التصفيات والخطف على الهوية والحواجز الطيّارة واصطياد كل ما يطير ويغط.
أولادنا لم يعرفوا الحرب. كانوا يحفظون قصائد بولس سلامة وفوزي المعلوف ويقرأون جبران خليل جبران ونوادر مارون عبود وتأملات ناسك الشخروب. أولادنا فلذات الأكباد الذين تعبنا على دقّ رياحينهم وعلّمناهم بالدَّين وخرّجناهم من الجامعات من فلس الأرملة علّهم يرثون وطناً أخفقنا في الحفاظ عليه. شعبنا مات وعاش ألف مرّة على شعارات براقة وهدامة وكذابة ودجالة فيها كل شيئ سوى حب الوطن. أولادنا هؤلاء لم يقرأوا شيئاً ولم يبحثوا عن شيء وها هم اليوم يعودون إلى الميليشيات والعصابات مشحونين بحقد طائفي يبدو أنه كالورم السرطاني يعود كل خمسين سنة ليتفشّى في أجسادهم كما تفشى في أجسادنا.
أٌنظروا إليهم يعودون إلى هواية الأسلحة وينتظرون انفجار خطوط التماس بين عين الرمانة والشياح. بينَ لاسا وجوارها. بين عنقون ومغدوشة. بين السنة والشيعة وبين المسيحيين أنفسهم في ظل تفشّي حيازة السلاح في كل المراكز الحزبية م دون إستثناء.
الواضح أننا لم نرتقِ إلى مستوى شعب. على محطات البنزين ينتشر أولادنا للتأكد من أنَّ “غرباء” لا ينتظرون ليعبّئوا سياراتهم على حساب طوائف أولى بالبنزين منهم. كل شيء في بلدنا بات جاهزاً للحرب. المطلوب حدث واحد ليعيدنا خمسين سنة للوراء لنقضي خمسين سنة مقبلة متحاربين ومتقاتلين. إنه لبنان الدولة المستحيلة والنظام المستعصي والصيغة الملتبسة والعيش الواحد الملغوم والدستور الممسحة والميثاق الهرطقة والسلم الأهلي الكذبة والرسالة التي غفل يوحنا بولس الثاني عن إكتشاف مدى تنكّرنا لها.
نسير بخطىً وطيدة نحو حرب جديدة. تلعب بنا مصالح الدول ونلعب معهم لعبة الإنصياع والطاعة بمجرّد أن يدغدغوا عواطفنا الدينية. نحن مخلوقات قرون وسطى نسيَ التاريخ تعليمنا وتربيتنا. في ظلّ العوز والفقر والحصار صرنا على أهبة القتل. نحن قتلة أنفسنا ولا حاجة لأي طرف لتبشيرنا بجهنّم. جهنّم كاملة التجهيز والعتاد في أعصابنا وعضلاتنا وتلافيف أدمغتنا. أكبر إثمٍ أننا أنجَبنا وتناسَلنا. ربّينا آلات قتل فتّاكة وشباباً بقدرات إستثنائية للقتل والتدمير.
يكفينا أن نشاهد عاجزين كيف يغرق بلدنا دون أن نحرّك ساكناً. ننتظر فقط رحمة الله وخمسين سنة جديدة من النار والدخان والركام. هيدرو غليسّور أو أي باخرة أغنام بتنا ننتظرها لتهريب ما تبقّى من أولادنا إلى ديار الله الواسعة. البحر من أمامنا وجهنّم خلفنا. فليكن الله في عوننا وليستمع إلى حشرجاتنا إذا كان ما زال سميعاً مجيباً.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.