أينَ ما بعدَ الموجِع فخامَة الرّئيس؟
بِقلَم روني ألفا
جريدة النهار الإثنَين ٣١-٥-٢٠٢١
لم يحدثْ إلا في لبنان هذا العسيسُ الذي يَترَكُ شعباً بأكملِهِ بحروقٍ وندوبٍ مقيّحَة. عذابُ الشعب اللبناني لا يُطاق وغيرُ مسبوقٍ حتى في الدول التي تحكمُها زُمَرُ انقلابيين. في أفريقيا يبقى للناس بساتين المانغو والأناناس. في لبنان لم يبقَ شيء. لا أذكر في تاريخ لبنان الحديث أن فكّرَ أحدٌ بهرطقةٍ اسمها بطاقة تموينية. تخيَّلوا اللبناني الذي لطالما كان يشعرُ بإحساسٍ مفرِطٍ بكرامته، تَخَيَّلوهُ يبرزُ بطاقةً ممغنطةً لقاءَ كيسٍ من الحمّص أو عبوةِ بودرة حليبٍ لأطفاله. الأزمةُ ماليةٌ واقتصاديةٌ في جزءٍ يسيرٍ منها لأن محنًا مماثلةً لا تدوم. المحنةُ الحقيقيةُ تكمنُ في طَحنِ الكرامات. تَرَبَّينا على الشرفِ والوفاءِ والإكتفاءِ والكَرَمِ والضيافةِ وهناءِ العيش فإذا بطبقةٍ سياسيةٍ تُهيننا في كلّ ما تبقّى لنا وتدرّبُنا على امتهانِ الغدرِ والخسّةِ والطَّمعِ والبخلِ وتسكيرِالأبواب لأنها حكمتْ علينا بالقلَّةِ والبؤسِ والإفقار.
تأمّلوا في إستراتيجياتِ التّدجين التي تُمارَسُ على الشّعب اللبناني. إلهاؤُهُ بالعَرَضيّ. تَسخيفُ أولوياتِه. أنْ تتأمّلَ بِتَغريدَةٍ للرئيس الحَريري مثلاً يُصبِّحَكَ فيها بالخَير ويتمنّى لَكَ يوماً سَعيداً. فوراً ينطلِقُ الغَوصُ الفَلسفَيُّ في معانيها وعَمّا إذا كانَت غَريبَةً أو مستَغربَةً أو مستهجَنَةً أو مَنحولَة. بِضعَةُ دَقائِق مِن وقتِكَ على كل تَغريدات السياسيين تُنسيكَ قَفزات الدّولار وأسعارَ المَلفوف وثمنَ سندويش الطّاووق مِن سناكَ ” أبو عَفيف ” على مفرَق بيتِك. بالطّبع ستتذكَّرُ أنّكَ تعرضّتَ لِتَنصيبَةٍ عندما تذهَب أنت والعائِلَة لتشترَي أربعَ كَعكات كنافَة مِن الحلوَنجي فتَكتَشِف أنَّها تَكاد تُناهِز 15% مِن الحّد الأدنى للأُجور.. والخَير لقدّام.
إستراتيجيَّةٌ مبدِعَةٌ مِن نَوعٍ آخَر. يبتَدِعُ السياسيون مشكِلَةً ليُنظَرَ إليهم كمبتَدِعي حلول. يفضحونَ ممارسَة. ينبّهونَ مِن تَقصير. يكشفونَ مَوطِن فَساد. يَدهَمونَ محلّ سمانِة مدجّجين بالكاميرات للتغطيَة. يبادِرون إلى عقد مؤتمرات صحفيَّة يميطونَ اللثامَ خلالَه عن الفضيحَة. أربَعَةُ أطنانِ دَجاجٍ فاسِدٍ والماركَةُ مَشهورَة. بالطّبع تمرّ أشهُر. ننتظِرُ أن يمثُلَ أصحابُ الماركَة أمامَ القَضاء فإذا برامي عليَّق يمثلُ أمامَه. سياسَةُ التّمويهِ ومحوٌ للذاكِرَة واستبدالُ أحداثٍ بأحداث ليختلِطَ علينا الأمرُ في نهايَةِ المَطاف. النتيجَةُ إحباطٌ متراكِمٌ يعالِجهُ بعضُنا بالبروزاك وبعضُنا الآخَر بويسكي محليَّة هي في المحصَّلة اختمارُ بصَلٍ مُخَلَّلٍ مع صبغَةٍ هي الأقرَب لِلَون جوني ووكُر.
استراتيجيَّة التّضحِيَة. ورَدَتْ على لِسان رئيس البِلاد. أطلقَ وعداً بأنَّ الإصلاحات التي سيَقومُ بِها سَتَكونُ موجِعةً. أضافَ أنَّ الوَجَع سيكونُ مَرحليًا بالمقارَنَة مِع نتيجَتِه علينا جَميعاً. أن نضحّي اليَوم مِن أجلِ الغَد هوَ أفضَل منوِّمٍ على الإطلاق. أكثَرُ فاعليَّة مِن الفاليوم والدورميكون والمورفين. سذاجَةُ الرّأيِ العام الذي ينتظِرُ دائِماً أن يَكونَ غَدُهُ أفضَلَ مِن يَومِه. على هذا المِنوال يصبِحُ تحمُّلُ العذاباتِ اليوميَّة ممكناً لأنَّ المستقبَلَ يَحِملُ لنا ورودًا ورِياضًا وحَدائِقَ غَنّاء. بالطّبع ترَكَ لَنا رئيسُ البِلاد الوَجَع. الإصلاح سيُبحَث بإمرِه لاحِقًا..لاحِقًا جِدّاً.
استراتيجيَّة الدّغدَغَة أخيراً. يخاطِبونَكَ كما يُكاغونَ َأمامَ الأطفال قبلَ أن تبرزَ في لثّتِهِم العُليا أضراسُ الحَليب. أنتَ تحبُّ هذه اللغّة. حقوقُ المَسيحيين. حقوقُ السّنة. حقوقُ الشيعةِ والدّروز. غيرَةُ الدّين وِأنتَ مَديون. في هذا الوَقت سيبقيكَ الزّعماء الذينَ تخصصوا بكيفيات إستِعبادِك مُحاصَراً بالجَهل والبلاهَة.المَطلوب أن تبقَى حفرَةُ الجَهالَةِ التي تفصِلُ بينَ طبقتِكَ الشعبيَّة وطبقتِهِم القياديَّة كبيرَةً وغيرَ قابِلَةٍ للرّدم وحتّى لا تتمكّنَ مِن فهم ما يَجري مِن حَولِك. الأكثَرُ دهشَةً هوَ نَجاحُ كلّ هذه الإستراتيجيات عَلى شَعبٍ فيهِ أعدادٌ كبيرَةٌ مِن العَباقِرَة والمُجَلّين في كافّة ميادين المعرِفَة. بِتنا نستَلطِفُ غَباءَنا ونتماهَى مَع بلاهَتِنا ونستسلِمُ لِجلّادينا. يَكادُ زعماؤنا يقنِعوننا أننا السبب فِي بَلوانا لأننا بلغَنا مِن الغَباء ما يَكفي لِجَلد أنفُسِنا وجَلد بعضِنا البَعض بَدَل سلخِ جلودِ مِن أوصَلَنا إلى دركِ ما وصَلنا إليه.
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.