قُسٌّ بِن ساعدة في مؤتمر باريس
قُسٌّ بِن ساعدة في مؤتمر باريس
بِقَلَم روني ألفا
لم يحدثْ في تاريخِ لبنان ولا في خلالِ مئويته الأولى أن شعَرَ لبنان بهذا الخجل من مسؤوليه. مرَّ على لبنان حقباتٍ قاتمة. جَرادٌ. مَجاعةٌ. مشانِق. نَفيٌ الى الأناضول. حربانِ عالميتان. خلالَ كل هذه الهزات كان الرِّجالُ رِجالاً. في زمنِ الجَراد خرجوا حاملينَ معاوِلَهُم. في المجاعةِ ماتوا من الكرامةِ وليسَ من الجوع. أعوادُ المشانق عزفوا عليها بطولات. لم يحدث يوماً أن صارَ الرِّجالُ في لبنان صِغاراً الى هذا الحَدّ. أقزاماً الى هذا الحَدّ. مؤتمرُ دعمِ لبنان من باريس كان أشبَهُ بطقسٍ من طقوسِ التسوّل. المشرّدونَ في الأرض الذين يمدونَ الأيدي من أجلِ كسرةِ خبز ٍأكثرُ كرامةً من رجالاتنا. حاولَ رئيسُ الجمهورية أن يغلّفَ هذه الحقيقة بشيءٍ من جزالة اللفظ بلغاتٍ ثلاث. لم يُوَفَّق في تغطيةِ ارتكاباتِ مسؤولينَ حوّلوا لبنانَ إلى دولةٍ مشرّدةٍ تستعطي الأممَ الغريبة.
إنتظروا معي الصمت. لن يتنكّبَ أحدٌ مشقَّة التعليقِ على المؤتمر. ماذا يردُّ الحَمقى عندما يُقالُ لهم يا حَمقى؟ ماذا يقولُ السارقُون إذا نُعِتَوا بالسارِقين؟ بُلِيوا بالمعصية وسيستَتِرون. لم تقوَ كلمةُ الرئيس على جعلِهِم أقلُّ حماقة وأقلُّ سفالة. من دونِ مواربةٍ أجمعَ صندوقُ النقدِ ومعه الدولُ المانحةُ خلالَ المؤتمرِ أن المساعدات ستكونُ إنسانيةً ولن تمرَّ بالقنواتِ الحكوميةِ وأن لا قروضَ إلا ومشروطة بإصلاحاتٍ وأنَّ لبنانَ لم يحقق منها شيئاً حتى الآن. كَمٌّ غيرُ مسبوقٍ من التأنيبِ ونشرِ عَرضِ الدولةِ وطولِها من دونِ أن يتجرأَ على الردِّ رجلٌ واحِد. لبنان الذي كانَ في ما مضى معمَلاً لتجميعِ الرِّجال ومصنعاً لحياكةِ الكرامة وعريناً لِرِفعَةِ الرأس وشموخِ الجَبينِ يُهان ويُستهانُ. وطنٌ بأمِّه وأبيهِ، بتاريخه وثقافته وحضارته يُتناوَلُ بالتأنيبِ والإحتِقار. في أيِّ جورةٍ نتِنَةٍ وضعَتنا الطغمةُ الحاكمة؟
واللهِ حَرام. بعد ثلاثينَ سنةٍ نهباً صارَ هدفُ الدولةِ اللبنانيّةِ تحقيقاً جنائياً. الأنكى أنها تصوّرُ لنا ” الفورنسيك أوديت ” كمدخلٍ للإصلاحِ ومحاربةِ الفساد. التحقيقُ الجنائي يشبِهُ المحكمةَ الدوليةَ التي نظرتْ باغتيالِ الشهيد رفيق الحريري. ستمضي شهورٌ كثيرَةٌ قبل أن تنتهي التدقيقاتُ في الأرصدةِ والحسابات. التقنيُّ سيأكلُ من صحنِ الإصلاحي والوقتُ سيأكلُ من صحنِ الإثنين معاً. ثم ماذا سينتُجُ عن التدقيقِ بعد ستةِ أشهرٍ أو سنة؟ هل تعادُ الأموالُ المهدورةُ والمنهوبةُ والمحوّلَة؟ محكمةٌ ثانيةٌ ستنعقدُ لتحديدِ المسؤوليات وسوقِ التهم. علينا التعوّدُ على فكرةِ أن ما نُهِبَ قد نُهِب. لا عودة لأيِّ قرشٍ الى كنفِ حساباتِ الدولة. إقرأوا عن تجاربِ الآخرين. النظامُ الماليُّ العالميُّ يحمي الأموالَ التي دخلتْ اليه. لا يحمي المغفّلينَ مثلنا. دلّونا على دولةٍ واحدةٍ حققت فيها الثورةُ استرجاعاً للأموالِ المهدورة. دولةٌ واحدةٌ لنصدّق. لن تجدوها.
أخشى أن نكونَ قد انزلقنا الى حيثُ لا يمكنُ تسلّق الجدار من جديد. نحنُ في مستقرِّ وادٍ سحيقٍ تُحيطُ به من الجهاتِ الأربع هِضابٌ زجاجيةٌ مطلوةٌ بسوائلَ لزجة. عبثاً نحاولُ تسلّقها. أيامُنا الآتيةُ مخيفة. بشيءٍ من التهيّبِ نتبادلُ مع القرّاءِ هولَ انتظارِ قدومها. شيءٌ بضخامةِ عصفِ انفجارِ المرفأ إنما من دون دخانٍ ولا حريق. في هذا العصفِ لن ينفعَ إطفاءٌ ولا رفعُ أنقاض. أنقاضُنا ستكونُ أثقلَ مِن أن تُرفَع. جرادُنا سيكون مِنّا وفينا لأننا حينما يشحُّ الأكلُ سنأكلُ بعضنا. حتى الذين يمتلكونَ المالَ الطازجَ لن يجدوا مكاناً ينفقونه فيه. ما نفعُ النقدِ إن لم تجد سلعةً تشتريها ؟ نحنُ قادمونَ الى موتنا بخطىً ثابتة وأكيدة. الحديثُ عن انهيارِ الدولةِ لم يعد مطابقاً لواقعِ الحال. نحنُ في زمنِ وفاةِ الدولة.
٢٤٦ مليون دولار هو مبلغُ البقشيش. نحنُ بِحاجةٍ الى مئةِ مليارِ دولار لنتحوّلَ الى دولةٍ محنّطة. بضعةُ ملايين لا تكفي للكشفِ عن جثاميننا. أحياناً تراودُ بعضنا فكرةُ الموتِ بعدوى كورونا. أفضلُ من موتِ كراماتنا على يد جلّادينَ لا رحمةَ في قلوبهم ولا عدلَ في ضمائرهم ولا رادعَ في أخلاقهم ولا إلهَ في إيمانهم. انه زمنُ الموت. مِنّا مَن سيموتُ بسلامٍ في سريره وهذا محظوظٌ ومنّا من سيقضي مقتولاً من أقربهم اليه. فاتَنا أن نشدَّ على يدِ رئيس الجمهورية مرددينَ قولَ قِس بن ساعدة: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعِبَراً. ليلٌ داجٍ، ونهارٌ ساجٍ، وسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ. ما لي أرى الناسَ يذهبونَ ولا يرجعون؟
ان المعلومات و الاراء و الافكار الواردة في هذا المقال تخص كاتبها وحده و تعبر عن وجهة نظره الخاصة دون غيره؛ ولا تعكس، باي شكل من الاشكال، موقف او توجهات او راي او وجهة نظر ناشر هذا الموقع او ادارة تحريره.
ان هذا الموقع و ادارة تحريره غير مسؤوليين عن الاخبار و المعلومات المنشورة عليه، و المنسوبة الى مصادرها بدقة من مواقع اخبارية او وكالات انباء.